تقوم المؤسسات الإعلامية العراقية التابعة لإيران بدور مركب، إذ تقوم بضبط الخطاب ليكون مواليا لطهران كليا، كما تشن حملات تشويه تمس صورة الصحافيين والنشطاء والمدونين المستقلين. أما الميليشيات فتقوم بمهمة قمع الصحافيين والناشطين ووسائل الإعلام وترهيبهم لمنعهم من توجيه أي انتقاد لا يعجب إيران وأتباعها في العراق. بغداد - نجحت الأحزاب والميليشيات العراقية التابعة لإيران في تحويل الإعلام العراقي إلى مشهد واحد “منزوع النقد” إزاء سياساتها وممارساتها، بعد حملة بطش واسعة النطاق بالصحافيين والنشطاء وأصحاب الرأي، آخر ضحاياها الخبير الأمني الشهير هشام الهاشمي. ولم يعد توجيه النقد في وسائل الإعلام العراقية لسياسات الميليشيات وارتباطاتها الخارجية أمرا ممكنا من بغداد، إذ تتجنب وسائل الإعلام التي لديها مقرات ومكاتب في العراق الحديث عن إيران بشكل غير إيجابي أو التطرق لمسؤوليتها عن سوء الأوضاع عبر أذرعها العسكرية. ويتهم صحافيون أصدقاء الهاشمي ميليشيا كتائب حزب الله بقتله، لأنه انتقد عمليات الهجوم المتكررة بصواريخ الكاتيوشا على مقرات البعثات الدبلوماسية. وقبل الهاشمي تعرض العشرات من الإعلاميين والمدونين والنشطاء إلى حملة اختطاف وترهيب وقمع ممنهجة لإسكاتهم وقد تجنب من تعرضوا لها التحدث عما حصل لهم. ولم تتوقف الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران عند حد إخراس كل النقاد، بل دفعت وسائل إعلام تابعة لها إلى محاولة احتلال الفضاء الإعلامي نفسه. وأسست الميليشيات والأحزاب التابعة لإيران العشرات من وسائل الإعلام في العراق، من محطات فضائية إلى محطات إذاعية ومواقع إخبارية ووكالات أنباء، حتى باتت تشغل الكتلة الأكبر من سوق العمل في هذا القطاع. وتعمل إيران بطريقة الحزمة في قطاع الإعلام العراقي، فعندما تفتتح محطة فضائية تسندها عادة بإذاعة وموقع إخباري ووكالة أنباء، والعشرات من المنصات الترويجية الداعمة في وسائل التواصل الاجتماعي، كما فعلت مع محطات العهد والنجباء وآي نيوز والأنوار والمسار وآفاق والغدير والاتجاه والإباء والموقف والولاء والنعيم والأيام. وربطت إيران جميع هذه المؤسسات الإعلامية الكبيرة بكيان يدعى “اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية”، برئاسة حميد الحسيني، المرتبط بالحرس الثوري الإيراني. وذكرت مصادر من داخل هذه المؤسسات أن السياسات التحريرية يرتب لها مسبقا خلال اجتماعات مع رؤساء هذه الوسائل الإعلامية في مقر اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية في بغداد. كما تتم المتابعة الدورية معهم عبر تطبيقات المراسلة. وأشارت المصادر إلى أن هذه المؤسسات تلتزم بالأوامر التي تصدر من طهران بتشويه أي تحرك دبلوماسي للدولة باتجاه الانفتاح على الدول العربية بشكل عام، وتدعم هذا التوجه ببرامج حوارية لمحللين يؤكدون هذه الأفكار. إيران تؤسس مجموعات إعلامية في العراق بطريقة الحزمة تشمل قناة فضائية تسندها بإذاعة ووكالة أنباء ويلعب مسؤولو المؤسسات الإعلامية العراقية التابعة دورا مركبا، إذ يكلفون عادة بمهمة من اتجاهين؛ الأول هو ضبط الخطاب ليكون مواليا لإيران كليا، وشن الحملات لتشويه صورة الصحافيين والنشطاء والمدونين المستقلين، من خلال اتهامهم بالعمالة للولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل. وتتخذ الميليشيات هذه التهم لملاحقة جميع الأصوات التي تنتقد سياساتها. وهاجمت الميليشيات بالصواريخ والأسلحة المتوسطة جميع مقرات ومكاتب وسائل الإعلام التي انتقدتها، مثل “دجلة” و”أن.آر.تي” و”العربية” و”أم.بي.سي عراق”، كما أجبرت الحكومة على إغلاق مقر قناة الحرة الأميركية بشكل كلي. ونفذت الميليشيات الإيرانية في بغداد حملتي ترهيب أدتا إلى هجرة الصحافيين والإعلاميين والمدونين المستقلين والمدنيين والعلمانيين إلى إقليم كردستان وتركيا والأردن، الأولى بعد مناصرتهم احتجاجات أكتوبر 2019 والثانية بالتزامن مع تصفية هشام الهاشمي. والمفارقة أنه في غمرة الاحتجاجات والاعتداءات على المتظاهرين في البصرة، كانت القنوات المدعومة من إيران تنقل بثا مباشرا من اليمن ما دفع بعض العراقيين عبر مواقع التواصل الاجتماعي لطرح علامات استفهام حول هذه المؤسسات، ولماذا تنقل أحداث اليمن أو احتجاجات أخرى في أنحاء العالم، بينما تتجاهل التظاهرات العراقية، وهي تبث من العراق، وتظهر في صورة محلية عراقية. ومنذ مقتل الهاشمي، لم يعد أحد يتحدث في الأوساط الإعلامية داخل بغداد عن سيطرة الميليشيات التابعة لإيران على مشاريع المقاولات في مختلف الوزارات وهيمنتها على المنافذ والمطارات والكمارك وحركة نقل البضائع ومواقف السيارات الخاصة والعامة والفرص الاستثمارية المربحة وصالات القمار والنوادي الليلية وتجارة الكحول والمخدرات، وغيرها من القطاعات التي تدر مالا كثيرا وسريعا. كما بات من المحرمات تقريبا، انتقاد كل ما هو إيراني، بدءا من المواقف السياسية وانتهاء بالألبان المعلبة التي تملأ رفوف المحلات في بغداد. ولا يتورع صحافيون عن إطلاق صفة “المدينة المحتلة” على بغداد، التي تنتشر فيها صور المرشد الحالي في إيران خامنئي والسابق خميني وقائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني سابقا قاسم سليماني، أكثر من أي زعيم عراقي. ويقول مراقبون إن هذا الواقع بجميع تفاصيله، مرهون بقدرة حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي على فك أسر العاصمة العراقية من الهيمنة الإيرانية المطلقة، ما يمنح الإعلام متنفسا يعبر عن حالة ديمقراطية حقيقية تعيشها البلاد.
مشاركة :