رغم قول المهاتما غاندي بأن مبدأ «اللاعنف قديم قِدَمَ الجبال»، فإن أغلب علماء الاجتماع رأوا أن غاندي هو أول من منهج هذا المبدأ سياسيا. وكان هذا المنهج، قد شاع حتى أصبح اليوم، أشهر أداةَ نضال مارستها شعوب الأرض في القرن العشرين، ابتداء من تحرير الهنود من سيطرة التاج البريطاني، وحتى تقليص عنصرية البيض تجاه الأفارقة الأميركان على يد (مارتن لوثر كنج). ويرتكز مبدأ اللاعنف على مقاومة الآخر، عبر الإيقاظ القسري لضميره؛ حيث يرى غاندي أن اللاعنف: «يكسر تسلسُل العنف، عبر فرض الهداية على القلوب»! ويعتبر اللاعنف بطولة بحسب غاندي، وذلك لما يتطلبه من ضبط للأعصاب، وكبح لفلتانها تحت أي ظروف! وتسمو فكرة معاقبة الآخر، عبر ممارسة اللاعنف، على كل أسلحة الحقد والثأر، منطلقة من مبدأ أن للبشر أجمعين، بقايا ضمير. ولما كان ذلك، فإنه يمكن اعتبار مبدأ اللاعنف، سلاحا غير ناري، ينزل بالضميرالأخلاقي للآخرين، صدمة إنسانية، تجبرهم على إعادة النظر في ما يرونه، مضيقا الفجوة بين اختلاف الآراء! وعندنا معشر المسلمين فإن القرآن مملوء بآيات تدعو إلى اللاعنف، نذكر منها قوله تعالى: «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»، وكذلك: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا»، ثم قوله للرسول: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ»، وقوله: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ». وتروي كتب السيرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- كان قد خرج من مكة ومَرّ على خيمة امرأة عجوز تُسمَّى (أم مَعْبد)، وحينما استسقى حليبا من عنزها ثم غادر المكان، من دون أن يتسنى لزوجها أن يراه، طلب الرجل من زوجته أن تصف الرسول، فقالت مما قالت بشأن سجياه أنه كان: «... لا عابس ولا مُفند». ويؤكد الصحابي أبوسعيد الخدري في سياق آخر وصف المرأة لـ الرسول بقوله انه: «كان هيّن المقولة [...] محزوناً من غير عبوس، شديداً من غير عنف». وكنت وأنا أتقرى في سيرة غاندي، قد داعبتني آيات القرآن المنددة بالعنف والمنادية بـ اللاَّعنف، وخطرت على بالي حكايات وأوصاف الرسول السالفة البيان، فتساءلت عن إغفال جماعات التكفير لهذه الآيات والأوصاف والحكايات، وإصرارهم على مجاهدة الواقع عبر القمع والتفجير والانتحار، لا الإصغاء وتبادل الأفكار؟! حملت أسئلتي من دون إجابة، حتى قرأت في فقرة على لسان غاندي أن سياسة اللاعنف، «سياسة روحانية» لا يتقنها من لا يؤمنون بفكرة «هداية الآخرين» عبر حوار صحي متنام. * أستاذ النقد والأدب aliali2222@hotmail.com
مشاركة :