ناقشت أعمال مسرحية كثيرة، على مرّ السنوات الماضية، هاجس التطور التكنولوجي وما يمكن أن يضفيه على حياة الإنسان. ولعلّ أحد أبرز الأعمال المسرحية التي طرحت فكرة الشريحة الإلكترونية التي عرضها رجل الأعمال الأميركي إيلون ماسك، قبل سنوات، هي مسرحية “الهمجي” للمؤلف المسرحي المصري الراحل لينين الرملي والتي أخرجها الممثل محمد صبحي، وعرضت لأول مرة على خشبة المسرح عام 1985. سواء كنا على أعتاب ثورة تكنولوجية هائلة أو أمام محض طموح جامح في التحكم والسيطرة وتطويع العلم والدمج بين البشري والبرمجي، فإن الفكرة التي قدّمها إيلون ماسك من على خشبة مسرحه العلمي ليست بالجديدة، فقد سبقه إليها المؤلف المسرحي المصري الراحل لينين الرملي، والمخرج والممثل محمد صبحي في مسرحية “الهمجي”، التي عرضت لأول مرة على المسرح عام 1985. على الرغم من أن أعمالا عدة ناقشت القضية ذاتها، تظل لمسرحية “الهمجي” خصوصية متمثلة في المحور الرئيسي للعمل، الذي لم يرتد زيّ التكنولوجيا ولا يمكن تصنيفه على أنه ضمن فئة الخيال العلمي، لكنه كان يتطرّق إلى صلب قضية الإنسانية بخيرها وشرها. ويغوص في عمق الصراع الإنساني المتأصل عند البشر منذ بدء الخليقة وحتى نهايتها، لذا ضرب التنبؤ عصب القضية التي ربما تغافلنا عنها في نقاش وانبهار اليوم، هل نريد أن نظل كبشر؟ وهل نثق في قدرتنا على ذلك؟ وهل الأزمة في كوننا بشرا أم أن البشرية على ضلالاتها الكثيرة تظل طوق النجاة الوحيد؟ أثار إعلان رجل الأعمال الأميركي إيلون ماسك عن شريحة “نيورالينك” أخيرا القلق في نفوس الكثيرين. فالشريحة التي يريد الرجل تثبيتها في الدماغ البشري لتفتح آفاقا جديدة للدمج بين البشر وجهاز الكمبيوتر، لا تضع التكنولوجيا فقط في محل اختبار، بل تتعدّاها إلى الإنسانية ومفهومها وقيمها، وتفتح نقاشا كانت خشبة المسرح المصري قد أثارته قبل 35 عاما حول ما يستعد الإنسان للاستغناء عنه في سبيل الشره للسيطرة والتفوّق. زفّ ماسك الخبر في 29 أغسطس الماضي الخاص بنجاح تطوير شركته وعدد من رجال الأعمال “نيورالينك” تطوير شريحة صغيرة في حجم عملة معدنية، يسعى إلى تثبيتها في الدماغ البشري بمساعدة روبوت صغير للغاية عبر شبكة من الأسلاك فائقة الدقة والمثبتة بالأقطاب الكهربائية، ومن المفترض أن تلتقط الإشارات من الدماغ ثم تترجمها إلى تحكم بالحركة. فكرة "مسرحية" بامتياز لينين الرملي أكّد في وقت سابق أن العلة ليست في القدرات الخارقة أو الكمال، إنما في احترام القيم البشرية لينين الرملي أكّد في وقت سابق أن العلة ليست في القدرات الخارقة أو الكمال، إنما في احترام القيم البشرية على مدار عقود، تطرّقت الساحة العلمية والمحافل الدولية إلى الحديث عن عالم التكنولوجيا وما تحمله من منح ومحن، وما يمكن أن يصنعه لنا الروبوت الذي يظهر في حوارات متلفزة مبهرا، كالتي قدّمت من الروبوت صوفيا، وما يمكن أن يحمله من مخاطر لمعاداة البشر والخروج عن السيطرة، مهما بدت كفكرة بعيدة وجامحة. تجاوز ماسك بما يقدّمه تلك الإشكالية إلى أخرى أخطر، ليست في صدد القلق من معركة بين البشر والذكاء الاصطناعي، بل في مهب تهجين الكيان البشري ذاته، لصالح أهداف عسكرية، وفق ما ترنو إليه مباشرة نظرية المؤامرة، أو أهداف نظيفة بحتة مثل إيجاد نسخة إنسانية ذات قدرات هائلة، وتتلاءم مع عالم يكبح الجنون والسرعة والتقدّم دون هوادة. الأخيرة على نبلها، هي ما اختبرتها “الهمجي” قبل 35 عاما، حيث استعرض العمل المسرحي سيرة الإنسان بين صراعات كثيرة، سواء تلك التي يخوضها مع ذاته أو في نطاق المحيط، بداية من اكتشافه لنفسه مرورا برغبته في السيطرة والمكسب، وتأرجحه بين القناعة والطمع، وإخفاقه في اختبارات الوفاء والصدق، انتهاء بما يمكن أن يقتله الإنسان في نفسه أو المحيطين به. وتستطيع الشريحة السحرية، وفق شرح ماسك الذي أذاعه في بثّ حي عبر يوتيوب، معالجة أمراض مثل الشلل النصفي والصرع والتحكم في الأطراف الصناعية، وتخزين كمية كبيرة من المعلومات، والتحكم في الذاكرة، بمحو ذكريات سيئة، ما يعني أنها قادرة أيضا على “زرع ذكريات” وأفكار والتحكم في العقل البشري، والتلاعب به وإخضاعه لسيطرة المتحكم بتلك التقنيات. كائن نصف بشري فكرة عالجها المسرح المصري منذ سنوات فكرة عالجها المسرح المصري منذ سنوات سبق خيال المؤلف الرملي، عبقرية ماسك الذي اختبر فرضية الخلاص في هيئة جهاز يوصل بعقل الإنسان على غرار الشريحة الأخيرة، تتحكم في انفعالاته، وتُخضع كافة أقواله وأفعاله لميزان الصواب والخطأ، فتجعلنا أمام كائن بشري “لا يكذب، لا يخدع، لا يزيّف، لا ينافق، لا يشعر، لا يحب، لا ينحاز..”، أي نصبح أمام كائن نصف بشري بما يملكه من لحم ودم وعظام، ونصف روبوت عبر تصرفات مبرمجة. يبدو الإنسان الجديد مثاليا للوهلة الأولى، وربما خارقا، لكن تسير أحداث مسرحية “الهمجي” لتكشف معاناة أن يتعايش بشري مع نصف بشري، وأن تحيا حياتك مع آلة مبرمجة تفتقد إلى المرونة اللازمة لسيرورة الحياة، والمشاعر النابضة بمعناها. علاوة على عجزها عن الوصول إلى أفضل الحلول الممكنة، فمثلا حين يُطلب من آدم (الفنان محمد صبحي) وهو في طوره نصف البشري أن يأخذ الباب في يده، في إشارة إلى إغلاقه يقوم بـ”خلع الباب وحمله”، كأننا أمام نسخة من الترجمة الحرفية لغوغل، غير قادرة على فهم ما وراء المعنى. أعلن الرملي، مؤلف المسرحية، فشل الطرح الميكانيكي إذن، وقبل الاقتراب منه الآن، ليؤكّد أن العلة ليست في القدرات الخارقة أو الكمال، إنما في احترام القيم البشرية والعمل على تنقيحها عبر عملية تفكير ذاتي وانصهار مجتمعي، وليس عبر زرّ يُضغط عليه، أو شريحة تُزرع في الأدمغة. انتهى العمل المسرحي، وزوجة آدم تنزع عنه الطوق المبرمج، أميركي الصنع، رغبة في استعادة ما هو بشري في زوجها، لكنه يعود “هجميا” كما بدأ، أميّا، وعاجزا عن النطق أو الفهم، ورغم ذلك ينتصر، بالرغبة في التعلم، وإعادة التجربة. انحاز مسرح الفن إلى القيم، وينحاز مسرح العلم للغوص في المادة، لذلك فإن تجارب ماسك وغيره لن تتوقّف في محاولة السيطرة والدمج، فالشريحة التي لا تزال قيد التمنّي قد تُصبح حقيقة في غضون سنوات، وتضع البشر في اختبار جديد، وفضول حول من يستطيع تقديم تجربة كتلك، من يمكنه أن يُسلّم دماغه لشريحة تعده بالقوة والسيطرة، أو من المرضى المغلوبين سوف تفتح لهم آفاق الشفاء والأمل، ومن سينحاز كليا إلى بشريته الناقصة الأبية للخضوع لسطوة الآلة. وسوف ننتظر لنعرف هل ننحاز إلى آدم نصف البشري أم الهمجي؟ بدورها، لم تجد شريحة إيلون ماسك بعد طريقها إلى أدمغة البشر، في ظل تعقيدات أميركية في تعريض البشر لذلك النوع من التجارب، بعد الخنازير التي صاحبت ماسك في عرضه الأخير لتُثبت فاعلية الشريحة. غير أن المهندس الذي سبق وأن أعلن عن وعود تكنولوجية كثيرة لا تزال بعيدة عن الواقع، قد يلجأ إلى مجتمعات لا تلقى التعقيدات نفسها لتجربة شريحته على الدماغ البشري، وتظل قيد الفكرة لسنوات تالية.
مشاركة :