إبداعات البوابة.. مدافن باب الوزير نص لـتقى نبيل على

  • 12/17/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

بكيت بالأمس؟! نعم كثيرًا، إلى أي مدى؟! حتى تجلَّى نور النهار وكشف ستر بكائي، واعتلت الشمس كبد السماء، واستحال السكون إلى صوت جماد ودواب وبشر، وكنت قد بدأت بُكائي منذ الثلث الأخير من الليل، فلماذا نبكي؟! لا يهم تعدد الأسباب طالما الفعل واحد.استيقظت من نومٍ لم أغَُص به من الأساس، وهممت بصلاة الضحى، ومن ثم شرعت في عدَ عُدتي، فأصبحت مهاجرة، كل صباح جمعة أهاجر إلى مكان جديد أختلي بنفسى فيه، وحتى لو تكدَّس الجمع من حولى، أخط لوحتي بخطوط وألوان قادمة من عالمي الخاص، تنفك منَي شيئًا فشيئًا علهَّا تتحرر، فإن لوقتي عليَّ ذمة لا بُدَّ أن تُقُتطع، أتأكد من ألواني وأوراق الرسم خاصتي وقبعتي التي تقيني بعًضًا من حر الشمس فأضم كل حاجياتي في جعبتي لانطلق، لا أدري كثيرًا إلى أين سيكون الركب تحديدًا هذه المرة، لكني تقابلت مع الجمع وسرنا سويًّا إلى المنطقة المرجوة حتى أدركناها، ووجدت نفسي فجأة قد انغمست بها انطلقت روحي تذوب بين ثنايا تفصيلها وكأني زهرة يافعة نابتة بتلك الأرض.تصلبت حواسي فجأة ولم تستطع المضي خطوة أخرى زائدة وأنا في حضرتها، لم أدِرِ كيف تعدَّاها البعض هكذا، أم أني من بالغت في دفع إحساسي إليها، كيف تعدوها بتلك السرعة وأخذوا يذرعونها جيئة وذهابًا ويبدءون لوحاتهم، أم ماذا عساي أنا من تحجرت قدمي وتصلبُتُ فيها، أزاغت عيني عمن سواها وأحسست بأول ما وطأت بقدمي بها بأني وحيدة لا أحد سواي، ذُبت بها واحتضنتني هي الأخرى، حتى أنفاسى فقد هدأ صوتها في حضرتها، صُمَّت أذني عن صخب الحياة، عَّلَّ تلك الرقعة أن تكون دفئًا وسلامًا على قاطنيها، ابتسمت حين وجدت حركة خفيفة تدب من داخلها لأناس قد انسجموا مع من يقطنوها وبدوا وكأنهم ضيوفهم يجلسون ويتسامرون ويأكلون ويشربون ويقرآون لهم القرآن والكثير من الأدعية، وآخرون قد اتخذوا إلى جوارهم بيوتًا، فقد غشيت الأرض التي تعلو المقابر العشرات والعشرات من البيوت، لم أستشعر انقسامهم عن عوالم الآخرين ممن سكنوا القبور، وكأنهم قد وجدوا حياة وسطًا تجمع بين عالميهما معًا، وأحسست بمن في القبور وكأنهم يحاكونهم هم الآخرون يخبرونهم عن أيامهم، وظلوا جميعًا يحملون معًا أثقال بعضهم البعض.لا أعلم أنحن العالقون بالحياة، أم هؤلاء الذين بالجانب الآخر في الأسفل، قد افترشوا بيوتًا، لا يصدر عنهم صوٌتٌ ولا تدوي منهم آهات، وقفت أشاهد المشهد من التبة وأحسست أننا جميعًا الراحلون، أما عنهم فهم بدار البقاء.فهنا الأرواح تتلاقى، تتصل ولا تنقطع، فقد كان الحبل مديدًا بينهم، وصار كامل جسدي يرتعش لا أعلم أكان يرتعش من نسمات الشتاء أم من هيبة الموقف، فمن يكون هنا ولا يذوب فيما حوله وكأن ثمة أشياء تريح القلب تارة ويُقبض لها تارة أخرى، يُكبح غرورك على تلك التبة التي تعلو المدافن، تذبُل الدنيا من ورائك، وتشعر بأنك قد أدركت الخلاص كما لم تدركه من قبل، مدافن كثيرة يحتضن بعضها البعض، سلام وسكينة لا تعلم مثلهما إلا في حضرتها، لعلها تكون بردًا وسلامًا على قاطنيها، على من بليت أجسادهم وفنيت وظلت أرواحهم تشاركنا الحياة.هنا يندمج الأحياء منهم مع الأموات، يجيئون ويذهبون إليهم بلا فاصل بينهم، أو مانع يمنعهم من الزيارة ولا تُلُهيهم مشاغل الدنيا وعثراتها، فهؤلاء في عثرتهم وفي فرحتهم سواء، دائمو الضحكات التي تتجلى في الآفاق وكأنهم يسخرون من الدنيا ومَن فيها ويقولون: "خاطئٌ مَن ظنَّ بأن قلوبنا تنكسر".لربما عسرة العيش هي من صلبت أضلاعهم، وأتيت من أصلابهم بأطفال كهؤلاء، التي يبذل المرء أمامها الكثير والكثير من الحسابات.ومن بينهم هؤلاء، صبية لا يتجاوز عمر أكبرهم الخمسة أعوام، متقلبو الأحوال ما بين شجار ومزاح، يختلفون تارة وتتعالى ضحكاتهم حد السماء تارة أخرى، يذرعون الطرقات لهوًا ومرحًا ففي اندماجهم معًا لا تدري أيتشاجرون هم أم يتمازحون، فلم يسلم الراقدون بالمدافن من انتفاضاتهم فيخترقونها بأجسادهم الضئيلة يلهون ويدبون بها يكسرون بمن في التراب صمتهم، وفجأة ينقضون على الطرقات وينتشرون بها، كحبات مطرٍ وقت السيول، يشاكلون كلبًا ضالًا ويرافقونه كأنه فردٌ من أفراد العائلة، يلقبونه كي يسهل التعامل معه، حتى هو يجري ويمرح ويتشاجر ويصيح كمثلهم تمامًا.وصغيرة سرقت أنظاري إليها أول ما تراءت بالمشهد، جاءت تشق برد الشتاء شقًا، ضئيلة الجسد، يعتريها بعض الهذيان، يكسوها الرث من الثياب، ترتدي بقدميها حذاءً يكشف عن قدمٍ رقيقة يلطخها قليٌلٌ من الطين، لكن أحسست في بريق عينيها أناقة سيدة لا تعبأ بكل هذه المظاهر المفارقة، وتسير كواثق الخطى مَلِكة، تمسك أناملها الرقيقة الناعمة بيد جدها التي زاد شقوقها الزمان، يتحدث إليها وتبتسم هي على استحياء يسيرون بمحاذاة المقابر.يقبض الجد بيمناه يدها وباليد الأخرى كان يحمل كيسين من "الفول والآخر من الطعمية"، توقفا ثم استقبلا المقابر، ومع نظرة منه ليست بالطويلة أخذ يدعو: الله يرحمك يا ابني، الله يرحمك يا ابني.. ثم شرع في قراءة الفاتحة ومسح على وجهه بيده في نهاية الأمر، متباركًًا بدعائه، وعادت يده لتطبق على يدالصغيرة مرة أخرى وذهبوا، وكأن ما فعله شيء معتاد في كل صباح.حينها وجدت نفسي أردد من ورائه تلقائيًّا: الله يرحمه ويغفرله، ويرحم موتانا وموتى المسلمين أجمعين. ومن ثمَ ومع نظرة أخيرة ألممت بها كل تفاصيل الرقعة بجوفي، جاهدُتُ نفسي على العودة إلى سكينتي مرة أخرى، لأندمج مع الأحياء، فما نحن سوى راحلين يسكنون الحياة.

مشاركة :