في رثاء أمي

  • 2/13/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

مرّت السنوات وعبرتُ كل قارات العالم وتقاطعتُ مع كل الناس وكل الثقافات، وملأ الشعر الأبيض مفارقي ولكن في حضرة أمي أعود ذلك الطفل الصغير، حتى أنني كنت لا أجرؤ أن أصارحها بمرضي وسفري؛ لأنها ما زالت تقلق عليّ وكأني فعلاً ما زلت ذلك الطفل الذي كانت تحميه.. هل تعجز الكلمات أن تعبر عن مدى الألم الذي أشعر به لفقد أمي؟، كلمة الألم بكل ما تحمله من قسوة لا تعبر عما يتدافع داخل عقلي وقلبي، فلم أجد تعبيرا ينقل ما أشعر به من إحساس الفقد لأن من فقدته هي أمي، لأول مرة أشعر أنني «شخت» وكبرت، فلم تعد التي تعاملني وكأنني ما زلت ذلك الطفل موجودة، ذهبت ولن تعود، في حضرة أمي كنت أشعر دائما أنني لم أتجاوز العاشرة من عمري، وأني ما زلت في بيتنا الطيني وهي تناديني وسط الحوي «فناء المنزل»، فد كانت غرفتي في الطابق الأول وكنت أخرج وأنظر إليها وهي في وسط الفناء منزعجة لتأخري عن الذهاب للمدرسة، صوتها الجاد كان يمتزج بالحب والحنان والرحمة، لكني لم أستشعر حرصها وحرقتها لعدم اكتراثي إلا بعد أن كبرت. مرت السنوات وعبرت كل قارات العالم وتقاطعت مع كل الناس وكل الثقافات، وملأ الشعر الأبيض مفارقي ولكن في حضرة أمي أعود ذلك الطفل الصغير، حتى أنني كنت لا أجرؤ أن أصارحها بمرضي وسفري؛ لأنها ما زالت تقلق عليّ وكأني فعلا ما زلت ذلك الطفل الذي كانت تحميه، تفننت خلال العقود الأخيرة في ابتكار الأعذار ويمكن الأكاذيب حتى لا أثير قلقها، لكنها في النهاية تقول لي: قل لي أين أنت؟، وأستسلم دون جدال وأعترف لها. هل هو قلب الأم أم ذكائها؟، كنت أعلم مسبقا أنني لا أستطيع أن أداري عنها شيئا، لكن كنت أحاول أن أؤجله قد استطاعتي، لا أستطيع أن أتخيل أنه يوجد في هذه الحياة من سيحبني قدرها، وعنما فقدتها شعرت بفراغ في قلبي لن أستطيع أن أملاؤه في يوم. آه، لم يعد هناك حاجة لخلق الأعذار والأكاذيب بعد اليوم، فمن كنت أجد نفسي صغيرا أمامها لم تعد موجودة، والتي كنت أتزود بكلماتها كل يوم تركتني وحيدا وذهبت إلى رب رحيم. من أرثيها اليوم ليست إنسانا عاديا في حياتي، ليست شخصا تعودت على وجوده فأصبح جزءا من روتين الحياة اليومي، إنها إنسان استثنائي، فخلال الثلاثين سنة الأخيرة تعلمت أن أبدأ يومي بسماع صوتها وبمداعبتها بالكلام، وخلال الأسبوعين الأخيرين التي مرضت فيهما قبل موتها شعرت بمدى حاجتي لسماع صوتها واكتشفت أنني من كنت أحتاج للكلام معها وسماع صوتها وليست هي، رغم أنها تثير الدنيا لو تأخرت عن موعدي في مكالمتي الصباحية لها، إنها إنسانة استثنائية جعلتني خلال العقود الأخيرة أبرمج وقتي لمحادثتها في نفس التوقيت الصباحي الذي اعتادت عليه، مهما كان موقعي في العالم، وقبل ذلك هي إنسانة استثنائية لأن طموحها ومقدرتها القيادية امتدت لأبنائها وبناتها وأحفادها رغم أنها لا تقرأ ولا تكتب. في السنوات الأخيرة كنت أنظر لوجهها الذي رسم عليه الزمن علامات لا تخطئها العين، وكنت أسرح في تلك السنوات التي كانت أمي تتمتع فيه بالقوة، فأقترب منها وأقبل يديها وجبينها، أريد أن أعبر لها عن حبي واهتمامي لكني أفشل كل مرة لأنها في نهاية المطاف هي التي تغمرني بحبها وحنانها، هي التي تضمني إليها رغم ضعفها وقلة حيلتها، لكنها قوتها الداخلية التي تمتعت بها طوال حياتها تتحول إلى طاقة غير عادية من الحنان، كانت - رحمها الله - تكره أن تكون ضعيفة، لكن الزمن وسنة الأحياء هي الهرم، فمن القوة إلى الضعف، ولعل هذا ما كانت تخشاه دائما دون أن تصرح به، حتى أنها تعودت طوال حياتها أن تعطي وتتحرج أن تأخذ حتى من أبنائها وبناتها، تشعر بالحياة عندما تمد يد المساعدة لأحد، وكنت أتذكر هذا السلوك عند أمي منذ الصغر، فقد كان بيتنا مفتوحا لفقراء الحارة من النساء وكانت أمي تساعد قد استطاعتها، واستمرت علاقتها معهم ومع غيرهم حتى بعد انتقالنا إلى منزلنا الجديد في منتصف الثمانينات الميلادية وحتى وفاتها «رحمها الله». إنها امرأة استثنائية، فهي تمثل المرأة السعودية التي كابدت قسوة الحياة، فهي من جيل «الأميات» «العالمات بالحياة». جيل لن تجود الأيام بمثله، تعود على التضحية والعطاء ونكران الذات، أمي كانت تغمر أسرتها الكبير بهذا الاهتمام المدهش حتى أنها وهي في التسعين كانت تسأل عن أبناء وبنات أحفادها بأسمائهم. لا أنكر أبدا أنني كنت أشعر بالدهشة والسعادة وأنا أرى أمي حاضرة الذهن مستيقظة رغم أنني أخرج من مجلسها وفي حلقي غصة وأنا أراها لا تستطيع الحركة إلا بصعوبة، وأقول في نفسي: هل سأراك غدا يا أمي؟، كنت أخشى أن أفقدها، وهأنذا اليوم أفقدها، فإلى جنة الخلد، بإذن الله، يا أم عبدالرحمن.

مشاركة :