قَارون عادَ بوجههِ العربي أقسى من أخيه المالُ يغدقهُ فيجري كالجَداولِ كالبُحور فيديرُ افئدَةَ الصَبايا يا أنت يا غولًا يخيفُ إذا ادلهم الليلُ أو طلعَ النهار يا باعثًا في الأرضِ آلافَ البغايا بغدٍ تثورُ الأرضُ ثورتها فتقتلعُ الجذور وتعود للدنيا الشموسُ وضيئةَ الدمِ والاهاب «علي السبتي» يغادرُ الشعراء ولا يغادرون، يعانقون الترابَ وتظل حروفهم تحاورُ المدى لتنتصر على الردى. يغادروننا جسدًا، يبقونَ حضورًا. غادرنا أخيرًا الشاعر الكويتي علي السبتي، هذا الشاعر/ الإنسان الوفي الذي حمل جثمان صديقه الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في سيارته عائدًا به إلى وطنه العراق.. إلى البصرة.. إلى جيكور قريته الأثيرة عند وفاته في 24/12/1964 بالمستشفى الأميري بالكويت وكأنه يحمل جثمانه في قلبه. إنه قمة الوفاء والعطاء الإنساني لصديق لقى نحبه في الغربة وحيدًا. وكان السياب قد كتب قصيدته المعروفة «غريب على الخليج» أثناء وجوده في الكويت، متلهفًا للعودة إلى بلاده، وعاد فعلًا ولكن ملفوفًا بقماش أبيض: الريحُ تصرخُ بي عراق و الموجُ يعول بي عراق، عراق ليسَ سوى عراق البحرُ أوسع ما يكون وأنتَ أبعد ما يكون والبحرُ دونكَ يا عراق علي السبتي شاعر عشق الإنسان واهتم بقضاياه الاجتماعية عمليا وليس نظريا. عُرف بدماثة أخلاقه وتواضعه وثقافته العميقة.. هذا الخارج من عائلة ارتبطت بالبحر، لم يتسنَ له إكمال دراسته بسبب ظروفه المادية واضطر إلى العمل بالشهادة المتوسطة ولكن عشقه للثقافة شجعه على التعمق والتطور إبداعيا ليصبح من روّاد الشعر الحديث في الخليج العربي حتى أصبح رئيسًا لمجلة اليقظة الكويتية. أذكر أن السبتي كلف المرحوم المحامي محمد السيد، الذي كان حينها يعمل مراسلًا للمجلة في البحرين، بإجراء مقابلات ولقاءات مع الأدباء الشباب في السبعينيات من القرن الماضي. وأذكر أنه أجرى مقابلة جماعية عن الشعر الملتزم بنادي البحرين في المحرق شاركتُ فيها مع الشعراء قاسم حداد، وعلي الشرقاوي ويعقوب المحرقي وغيرهم. كان ذلك في ليلة صيفية جميلة، حين كان الزمان غير الزمان. كان السبتي شاعرًا بارزًا في فترة الستينيات والسبعينيات، لكنه مقلًا في إنتاجه الشعري، فطوال ستين عامًا أصدر ثلاثة دواوين فقط هي «بيت من نجوم الصيف» و«شاعر في الهواء الطلق» وديوانه الأخير «وعادت الأشعار» عام 1997. بدأ حداثيا متأثرًا إلى حد كبير بالشاعر العراقي بدر شاكر السياب في كتابة الشعر الحر، حتى أنك عندما تقرأه كأنك تقرأ السياب، ثم تراجع وعاد يكتب الشعر العمودي. غريب هذا الأمر وهو الذي اعتبره النقاد رائد الشعر الكويتي الحديث. هل هو انهزام أمام سطوة الجمهور الذي يريد الشعر السهل ويحجم عن التعمق ومحاولة سبر الأغوار ويفضل قصيدةً تستسلم له في لحظات من دون جهد ولا مقاومة. الجمهور يريد الشعر المنبري.. الشاعر الذي يهزّ القاعات، يفضّل الظاهرة الصوتية ولا يرغب في التفكير. فعلا «الجمهور عاوز كده» لهذا السبب بدأ الفن الهادف والشعر الرؤيوي العميق يتراجع أمام هذا الطوفان الماضوي الذي يقف خلفه أجهزة تحارب التغيير في كل شيء وأي شيء. أبدع السبتي حقًا في الشعر الحر وما زلنا نتذكر بعض أشعاره، وذلك يكفي! Alqaed2@gmail.com
مشاركة :