منح الرئيس عبدالفتاح السيسي دفعة معنوية جديدة للدراما في مصر عندما كرر الإشادة بالدور الذي تلعبه في زيادة الوعي بقضايا الوطن بعد النجاح الذي حققته مسلسلات عديدة مثل “الاختيار” و”كلبش” و”هجمة مرتدة” في الآونة الأخيرة، وهو ما يعني توقع إنتاج المزيد من الأعمال الشبيهة الفترة المقبلة. من المفيد أن يهتم رئيس الدولة بالقوة الناعمة في بلده، فهي إشارة قوية للتركيز على هذا الجانب، خاصة أن السيسي يرى أن الدراما تلعب دور الإعلام البناء في وقت لم يعد الإعلام التقليدي يقوم بدوره الذي يتمناه ممثلا في الصحافة والتلفزيون والمواقع الإلكترونية، كما أن مواقع التواصل الاجتماعي تحولت إلى نقمة عقب تركيزها على الظواهر السلبية والفضائح وحالات الانتحار وما يدخل تحت بند الإثارة المجتمعية. تقوم الدراما الوطنية بدور مهم في التوعية ببعض القضايا وتقديم جوانب خافية على كثيرين، لأن المشرفين عليها يقدمون المعلومات اللازمة التي تدعم الرسالة المطلوب توصيلها للناس، وتقوم عليها شركات إنتاج تابعة للدولة تتبنى وجهة نظر معينة، ربما تكون صحيحة تماما أو جرى إدخال تعديلات عليها تتناسب مع الهدف منها. في الحالتين ينحصر الغرض في دفع الجمهور لتبني الرؤية التي تريدها الدولة، الأمر الذي يمثل ارتياحا للسيسي، فالرجل حقق إنجازات تنموية ومر بعواصف سياسية عاتية ونجح في تخطي تحديات إقليمية ودولية عديدة الجزء الغاطس فيها أكبر من الظاهر، ويريد أن يعرف الناس حجم الجهود التي بذلت للوصول إلى درجة عالية من الأمن والاستقرار حاليا. وجد السيسي ضالته في الدراما الوطنية ويتعامل معها كأنها وسيلة إعلامية أكثر منها فنية، لأنها تأتي من أعلى إلى أسفل، أو بمعنى أدق في اتجاه واحد ولا توجد لها تغذية مرتدة كما يقول خبراء الإعلام، فلا مناقشات أو اجتهادات جانبية، فالقول الفصل فيها لصاحب الرسالة ومن عملوا على توصيلها للمشاهدين وعليهم الاقتناع بها. تتوافر للدراما الوطنية عوامل فنية وإمكانيات مادية تساعدها على النجاح، فكل فنان يقع عليه الاختيار يضمن حصوله على ضوء أخضر بأنه من أبناء الدولة الوطنية، وهي عبارة مطاطة تدغدغ مشاعر الكثير من النجوم لضمان مرور أعمالهم بسهولة، كما يتوافر لها إنفاق مادي سخي لا يعترف بتقشف أو نقص في السيولة. أبعد من تعبئة الدراما الوطنية أن تتناول الأعمال قضايا مختلفة تهم المواطن، فقصر الدراما في التاريخ القريب وتوضيح الدور البطولي الذي لعبته المؤسسة العسكرية وجهاز الشرطة يبطل مفعول الدراما على المدى الطويل، ويقلص مهمتها التوعوية الشاملة، وهو ما يخشاه البعض من المراقبين. وبقدر ما يوفر دخول الرئيس على الخط دعما لها، يمكن أن ينحرف منتجو الدراما عنه إذا بالغوا في تفسير المعنى ويضعون كل ما هو غير ذي صلة برؤية السيسي تحت بند الدراما غير الوطنية، ما يخلق إشكالية كبيرة بين منتجين سيفضلون تجنب الوقوع في هذا الفخ بتعمد تقديم أفكار تدور في فلك العنوان الذي يريده الرئيس. لم يقدم السيسي تعريفا محددا للدراما الوطنية لكن العارفين بتفكيره يمكنهم وضع مسودة لهذا العنوان العريض، يضم كل ما يتعلق بالقضايا التي تهم الأمن القومي بمفهومه الشامل، بالتالي لا يجب حصر المفهوم في الدراما التي تتعرض لأحداث وتطورات سياسية مرت بها البلاد خلال العقد الأخير. Thumbnail تعد مناقشة ملفات صحة المواطن وتعليمه وتثقيفه وزيادة وعيه وتعريفه بطبيعة التحديات التي تواجه الدولة ومصير الحريات وحقوق الإنسان والقضايا الاجتماعية في صميم الأمن القومي ويجب أن تهتم بها الدراما ولا تغيب مناقشتها في المسلسلات، فقد تأتي لحظة ويتشبع فيها الناس من الوجبات التي تقدم لهم حول مواقف مصيرية. يتطلب المستقبل توسيع مفهوم الدراما الوطنية بما يتناسب مع المهام التي تقوم بها الدولة والخطط التي ينوي الرئيس تنفيذها عبر التبشير بالجمهورية الجديدة، وتتضمن أفكارا تحوي انتقادات مباشرة لما يحدث من أخطاء، فالأعمال التي تخلو من المعارضة ربما ترضي المسؤولين، غير أنها لن ترضي الحاكم الوطني على المدى البعيد، فالقيمة تأتي من تحويل الدراما إلى وسيلة توعية مستمرة وليس لنقل رسائل معلبة. أبعد من التركيز على الكم في الدراما التركيز على الكيف، وإفساح المجال أمام المبدعين لتقديم أفكار متباينة تتجاوز مسألة البطولات الفردية والجماعية، وهي مهمة بالطبع، لكن تكرارها قد يقضي على الهدف المحوري للدراما الوطنية، ففقدان البوصلة سيكون من الآفات التي تفرغها من مضمونها الحقيقي الذي يريده السيسي. يحرص منتجو الدراما على اللعب في المضمون والابتعاد عن مناقشة القضايا الشائكة، فالخوف من الخطأ في الاجتهاد يدفعهم لتنفيذ تعليمات جهات عليا بصورة صارمة، فالشخصيات التي تشرف على الأعمال ذات المكون الوطني تنفذ الأوامر بالطريقة التي تلقتها، ربما تغلق باب الاجتهاد ولا تمنح تصريحا به كي لا تتحمل وزره. اقرأ أيضا: "بيت عز".. رهان مصري متجدّد على الدراما الاجتماعية تكمن إحدى إشكاليات العقل المصري الذي له علاقة بعملية الإبداع الدرامي في انحياز بعض المسؤولين عنه لتنفيذ المطلوب منهم حرفيا، وإذا استطلع أحدهم الرأي في فكرة أو زاوية تمثل اجتهادا أو خروجا عن المألوف يأتي الجواب بالرفض، لأن المشورة نفسها تحوي ضمنيا الشك في الاجتهاد، فإذا كان صاحبها لجأ لمن هم أعلى منه للحصول على موافقة فالمعنى النهائي أنه يريد غطاء فهو لا يضمن عواقب اجتهاده. لتقريب الصورة للقارئ العربي أكثر حكى لي رئيس تحرير صحيفة كبيرة في مصر أنه حصل على مقال جيد بالمعنى المهني من كاتب عربي وخشي من عواقب نشره لأنه لا يعلم كيف سيتم تلقي مضمونه عند المسؤولين حيث يتناول قضية سياسية مهمة، فأرسله إلى جهة أعلى لاستطلاع رأيها في المقال فجاء الرد الفوري بالرفض. لم يعلم الصديق سبب الرفض وتصور أنه يتعلق بالمضمون إلى أنه فوجئ بالحصول على تفسير ودي من الجهة الرافضة لاحقا يفيد بأن تشككه في النشر وسعيه للحصول على موافقة كان كافيا لإبلاغه بعدم النشر، فلا أحد يريد تحمل تبعات سلبية محتملة. لذلك أبعد من تكثيف الدراما الوطنية منح منتجيها فرصة كاملة للإبداع والسماح بالتطرق إلى موضوعات متنوعة مع توفير مساحة كبيرة للحرية ما يجعل مهمتها تفوق قيمة الحشد الجاري في الإعلام الذي يعزف نغمة واحدة على آلات موسيقية متعددة.
مشاركة :