يلجأ الناس إلى الفنون لأهداف متعددة.. منها أنها تحلّق بهم بعيداً عن واقعهم اليومي.. فحين تتابع مسلسلاً أو فيلماً، تعيش حياة غير حياتك.. تواجه مشاكل غير مشاكلك.. تخوض تجارب لم تخضها.. وتقابل أناساً لم تقابلهم حقاً.. قد يكون عملك مكتبياً مملاً لكنك تعود لمنزلك كي تطارد الجواسيس مع جيمس بوند، وتجتاز الغابات مع طرزان، وتغزو الفضاء في حرب النجوم.. قبل السينما، حكى الإنسان الحكايات، ونسج الأساطير وتناقل السير الشعبية والملاحم والنوادر والأمثال. لأن حب الحكايات مغروس في وجداننا منذ عرفنا اللغة، وطورنا الكتابة.. في الماضي، كنت أتعجب من ضخامة بعض الروايات.. مثل «البحث عن الزمن المفقود» ذات السبعة مجلدات عملاقة.. متسائلاً، كيف يمكن لشخص أن يقرأ مثل هذا الكم؟ أين يجد الوقت والبال الرائق؟ وجدت الإجابة عند صديقي ذي الثقافة الأدبية الواسعة.. قال: إن هذه الروايات كانت تلعب الدور الذي تلعبه المسلسلات اليوم.. في زمن جدك لم يكن هناك نتفليكس كي يتابع «لعبة الحبار».. بل كان عليه أن يقرأ الروايات الورقية التي تقع تحت يديه ويتوحد مع شخصياتها ويندمج في أحداثها.. وهي متعة عظيمة لا يعرف عنها كثيرون اليوم شيئاً. قراءة رواية ينشط مراكز في المخ مرتبطة بالحوار الذاتي مع النفس، وكأن الرواية تنفذ إلى وجدانك مباشرة دون وسيط.. غير أنها تغوص بك في أعماق أفكار ومشاعر الشخصيات بصورة أعمق من الصورة البصرية التي تقدمها السينما.. حين تتوحد مع رواية، فأنت تعيشها حقاً وتنسج بخيالك مشاهدها وشخصياتها.. وهو ما جعل الأدب ملاصقاً لعلم النفس بشكل مذهل. عالم النفس يحيى الرخاوي يحلل روايات نجيب محفوظ، وسيجموند فرويد يكتب مراراً عن دوستويفسكي محللاً شخصياته وأسلوبه وشخصيته.. لسبب ما يجذبني الأدب الروسي بشكل خاص وينفذ لأعماقي في سلاسة عجيبة.. شخصياته بعيدة هنا زمنياً وجغرافياً وثقافياً، لكنها تشبهك وتشعر أنك تعرفها وقابلتها حولك مراراً.. بدءاً من القصص القصيرة لتشيكوف.. وصولاً للأعمال المهيبة لدوستويفسكي، الذي لم يقرأه كثيرون لأن أشهر أعماله «مثل الجريمة والعقاب والإخوة الأعداء والبؤساء..» أعمال عملاقة.. لو لم تكن رائق البال فاقرأ قصصه القصيرة الأقل شهرة والتي لا تقل عبقرية.. «لص أمين» مثلاً.. ولتشيكوف، اقرأ القصة الطريفة «وفاة موظف».. كنوع من التذوق قبل الاستمرار في هذه الوليمة العقلية الشهية! اعتبر هذا المقال دعوة كي تنزلق قدماك في دوامة الأدب النفسي الذي ستجد فيه تجارب وجدانية ثمينة حقاً.. أمنياتي لك برحلة سعيدة!
مشاركة :