يحتفي العالم في الثلاثين من شهر سبتمبر من كلِّ عام باليوم العالميّ للترجمة، احتفاءً بذكرى القديس جيروم (ت:420م) مترجم العهدين القديم والجديد؛ وهما العهدان المعتمدان للكنيسة الكاثوليكيّة منذ قرون طويلة. ومنذ خمسينيات القرن الماضي إلى الآن اختير هذا اليوم للاحتفاء العالميّ بمهنة الترجمة التي تواجه حاليًا الكثير من التحديات الكبرى مع منافسة برامج الذكاء الاصطناعيّ للترجمات الإنسانيّة. إنَّ الترجمة من لغة إلى أخرى ليست مجرد إجراء كتابيّ وظيفيّ ولا هي مجرد تحويل كلمات من لغة ما إلى لغة أخرى. إنَّ أيّ لغة في العالم هي نظام معرفيّ وثقافيّ وهوية في المقام الأول، واكتساب أكثر من لغة هو امتلاك المقدرة على حيازة الكثير من المعارف الإنسانيّة في مرجعياتها الأصيلة. إنَّ الترجمة في جوهرها الأصيل إبداع وخاصة ما يتعلق منها بالأعمال الأدبيّة الكبرى، والترجمات هي تأويل وإعادة فهم، وقد يؤدي تأويل مغلوط إلى إساءات فهم ثقافيّة كبرى كما تؤدي الترجمات الرصينة إلى تعريف عدد كبير من المتلقين إلى تنوّع ثقافيّ مذهل وإلى معرفة خلافيّة مشتعلة. يجب أن نضع أمامنا حقيقة أساسية مؤداها أنَّ الترجمات العربيّة من وإلى اللغات الحية الأخرى لا تزال حتى الآن في حكم القليل النادر الذي لا يمكن مقارنته بجهود اللغات الأخرى التي تتوافر لديها مؤسسات أكاديميّة وثقافيّة عالميّة كبرى معنية بالترجمات. وعربيًا كان المشروع القوميّ المصريّ للترجمة من أوائل المشاريع الرسميّة العربيّة الثقافيّة الطويلة الأمد والاستمرارية، وكان يستهدف ولا يزال الترجمة عن اللغات الحية والتنوُّع الثقافيّ. وبالفعل أنجز هذا المشروع في خلال خمسة عقود من الزمن مئات الترجمات وعدد كبير منها ينضوي في إطار الترجمات الرصينة. وعربيًا كذلك أذكر أيضًا مشروع المنظمة العربيّة للترجمة وهو مشروع تأسّس خلال بضع سنوات، وأنجز أيضًا ترجمات رصينة لعددٍ من أهم الكتب العالميّة على اختلاف الاتجاهات والمشارب الفكرية. وخليجيا تميَّزت دولة الكويت بالترجمات من خلال أعداد من عالم المعرفة؛ وهو الكتاب الدوري الذي استقطب خيرة الأقلام الفكرية والنقدية العربيّة إضافة إلى استقطابه عددًا من المترجمين العرب وتحفيزهم على ترجمة الجديد المختلف. وكويتيًا أيضًا هناك مجلة (الثقافة العالميّة) الصادرة عن المجلس الوطنيّ للآداب. ومن المشاريع الثقافيّة الخليجيّة التي وضعت لنفسها مكانًا متميزًا بين مشاريع الترجمة العربيّة مشروع (كلمة) للترجمة الصادر عن دائرة أبوظبي للثقافة، وهو المشروع الذي أطلقه في عام 2007 صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة؛ والاستثنائيّ في هذا المشروع عنايته بالترجمات النخبوية وعنايتها كذلك بترجمات الأعمال المندرجة في صنف الثقافات الرائجة؛ أيّ الأعمال التي لا تستهدف متلقيًا نخبويًا. وفي كلِّ عام تختار (كلمة) العشرات من أهم المؤلفات العالميّة الكلاسيكيّة والحديثة والمعاصرة من مختلف دول العالم. كما أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات العربيّة المتحدة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي مشروع (تحدي الترجمة) في شهر سبتمبر 2017؛ وهي مبادرة تهدف إلى توفير محتوى تعليمي شامل ومتكامل في مجالي العلوم والرياضيات، واستقطب هذا المشروع ما يزيد على 51 ألف متطوع ومتطوِّعة من المنطقة العربيّة من المتخصصين لتعريب المواد العلميّة والتعليق عليها في الوسائط الإلكترونية. أطلقت هيئة البحرين للثقافة والآثار بجهود استثنائيّة من معالي الشيخة مي بنت محمد آل خليفة رئيسة الهيئة مشروعًا ذا طابع يتسم بالفرادة في مجال الترجمة هو مشروع (نقل المعارف)؛ فقد أصدر هذا المشروع الكتاب الأول في هذه السلسة وهو كتاب (تفكر؛ مدخل أخَّاذ إلى الفلسفة) للفيلسوف سايمن بلاكيرن. وتنطلق فكرة هذا المشروع الذي يشرف عليه الطاهر لبيب من فكرة تيسير المعارف كي تصل إلى مختلف أنواع المتلقين، والتركيز على كتب مهمة أُهمِلَت ولم تأخذ حظها من الترجمة. ولا شكَّ أنَّ منطلقات المشروع ذكية جدًا؛ فقد نظرت إلى السائد في مجال الترجمات العربية، وتجاوزت التكرار والتشابه لتقديم شيء جديد ومختلف للقارئ العربيّ عوضا عن تكرار ترجمات بعينها. إنَّ مشروع (نقل المعارف) خطوة كبرى مميزة لهيئة البحرين للثقافة والآثار في سعيها للبحث عن مشاريع متميّزة دائمًا وخاصة في مجال التأسيس المعرفيّ، وقد أصدر هذا المشروع منذ إطلاقه حتى الآن مجموعة استثنائية وفريدة من الترجمات التي ترسخ مكانة مملكة البحرين في احتفائها بالتنوعات الثقافيّة الكونية الخلاقة. أستاذة السرديات والنقد الأدبي الحديث المشارك- كلية الآداب - جامعة البحرين
مشاركة :