سـرديـات: في السيميائيات الثقافيّة.. سرديات المدن أنموذجًا!

  • 1/21/2023
  • 01:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

في السيميائيات الثقافيّة.. سرديات المدن أنموذجًا! في‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ (‬1703م‭) ‬أسَّس‭ ‬القيصر‭ ‬الروسيّ‭ ‬بطرس‭ ‬الأول‭ ‬مدينته‭ ‬القيصرية‭ (‬سانت‭ ‬بطرسبورغ‭) ‬التي‭ ‬اشتقت‭ ‬تسميتها‭ ‬من‭ ‬اسمه‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬‮«‬الأسطورية‮»‬‭ ‬هي‭ ‬نافذته‭ ‬الثقافيّة‭ ‬المطلة‭ ‬على‭ ‬أوروبا،‭ ‬وكان‭ ‬حلم‭ ‬القيصر‭ ‬أن‭ ‬يجعلها‭ ‬مدينة‭ ‬بذائقة‭ ‬ثقافيّة‭ ‬أوروبيّة‭ (‬باريسيّة‭)‬؛‭ ‬بسبب‭ ‬تأثُّر‭ ‬النخبة‭ ‬الأرستقراطيّة‭ ‬والقياصرة‭ ‬الروس‭ ‬بالتحديد‭ ‬بفرنسا‭. ‬ورغم‭ ‬تعدّد‭ ‬تسميات‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬الاستثنائيّة‭ ‬من‭ ‬سانت‭ ‬بطرسبورغ‭ ‬إلى‭ ‬بتروغراد‭ ‬ثم‭ ‬لينينغراد‭ ‬ثم‭ ‬عودة‭ ‬إلى‭ ‬اسمها‭ ‬التأسيسيّ‭ ‬الأول‭ (‬سانت‭ ‬بطرسبورغ‭) ‬إلا‭ ‬أنّها‭ ‬اكتسبت‭ ‬أبعادًا‭ ‬أسطورية‭ ‬أبعدتها‭ ‬عن‭ ‬مرجعيتها‭ ‬التاريخّية‭ ‬الحقيقّية‭!‬ كتب‭ ‬الناقد‭ ‬السيميائيّ‭ ‬الروسيّ‭ ‬الشهير‭ ‬يوري‭ ‬لوتمان‭ ‬عن‭ ‬رمزية‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬سيمياء‭ ‬الكون»؛‭ ‬إذ‭ ‬تشتمل‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬على‭ ‬بعدين‭ ‬ثقافيين،‭ ‬البعد‭ ‬الأول‭ ‬المدينة‭ ‬اليوتوبيا،‭ ‬وهي‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬شُيِّدَت‭ ‬بصفتها‭ ‬تحديًا‭ ‬للطبيعة‭ ‬وبوصفها‭ ‬انتصارًا‭ ‬للعقل‭ ‬على‭ ‬العناصر،‭ ‬والبعد‭ ‬الثاني‭ ‬هو‭ ‬الأساطير‭ ‬الأخروية‭ ‬للمدينة،‭ ‬تنبؤات‭ ‬الخراب‭ ‬وتنبؤات‭ ‬الهدم‭ ‬وحلول‭ ‬الطوفان‭ (‬المدينة‭ ‬اللعنة‭). ‬إنَّ‭ ‬مدينة‭ ‬سانت‭ ‬بطرسبورغ،‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬لوتمان،‭ ‬مدينة‭ ‬تتحدَّى‭ ‬آليات‭ ‬الزمن‭ ‬لأنَّها‭ ‬آلية‭ ‬سيميائية‭ ‬مركبة‭ ‬موِّلدة‭ ‬للثقافة،‭ ‬ولكنها‭ ‬لا‭ ‬تقوم‭ ‬بهذه‭ ‬الوظيفة‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬فيها‭ ‬بوتقة‭ ‬لنصوص‭ ‬وأسنن‭ ‬مختلفة‭ ‬وغير‭ ‬متجانسة‭ ‬هجينة‭ ‬ثقافيًا‭.‬ ورغم‭ ‬حداثة‭ ‬إنشاء‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬ثمَّة‭ ‬تاريخاَ‭ ‬ميثولوجيًا‭ ‬أي‭ ‬أسطوريًا،‭ ‬ارتبط‭ ‬بها‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬التأسيس،‭ ‬والنشأة‭ ‬الأولى‭ ‬تشكَّل‭ ‬في‭ ‬مئات‭ ‬الأساطير‭ ‬والروايات‭ ‬الشفاهية‭ ‬التي‭ ‬رافقت‭ ‬مدينة‭ ‬سانت‭ ‬بطرسبورغ‭ ‬التي‭ ‬تحتمل‭ ‬هذه‭ ‬الثنائية‭ ‬المتناقضة‭ (‬المدينة‭ ‬الجنة‭ ‬اليوتوبيا‭/ ‬والمدينة‭ ‬اللعنة‭). ‬وهي‭ ‬المدينة‭ ‬الاصطناعية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬التكوين‭ ‬الأسطوري‭! ‬يقول‭ ‬أودوفسكي‭ ‬عن‭ ‬قصة‭ ‬إنشاء‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭: ‬‮«‬بدأوا‭ ‬بناء‭ ‬المدينة،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مرة‭ ‬يضعون‭ ‬حجرًا،‭ ‬يبتلعه‭ ‬المستنقع،‭ ‬يرصون‭ ‬حجرًا‭ ‬على‭ ‬حجر،‭ ‬صخرة‭ ‬على‭ ‬صخرة،‭ ‬عمودًا‭ ‬على‭ ‬عمود،‭ ‬غير‭ ‬أنَّ‭ ‬المستنقع‭ ‬يبتلعهم‭ ‬وعلى‭ ‬السطح‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سوى‭ ‬الطمي‭. ‬أثناء‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬كان‭ ‬القيصر‭ ‬يشيّد‭ ‬مركبًا،‭ ‬ثم‭ ‬أتى‭ ‬القيصر‭ ‬الروسيّ‭ ‬بطرس‭ ‬الأول‭ ‬زائرًا‭: ‬رأى‭ ‬أنَّ‭ ‬مدينته‭ ‬لا‭ ‬تنهض‭ ‬أبدًا‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬‮«‬لا‭ ‬تعرفون‭ ‬فعل‭ ‬أيّ‭ ‬شيء‮»‬،‭ ‬يقول‭ ‬لشعبه،‭ ‬وعلى‭ ‬إيقاع‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬بدأ‭ ‬يرفع‭ ‬الصخرة‭ ‬ويقوم‭ ‬بتجميعها‭ ‬في‭ ‬الأجواء،‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬بنى‭ ‬المدينة‭ ‬برمتها،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬وضعها‭ ‬أرضًا‮»‬‭.‬ يقول‭ ‬لوتمان‭ ‬عن‭ ‬الفضاءات‭ ‬المشهدية‭ ‬الطقوسية‭ ‬لهذه‭ ‬المدينة‭ ‬الثقافية‭ ‬‮«‬خاصية‭ ‬أخرى‭ ‬لبطرسبورغ‭ ‬هي‭ ‬تمسرحها،‭ ‬معمارية‭ ‬المدينة،‭ ‬الفريدة‭ ‬من‭ ‬نوعها‭ ‬بتماسك‭ ‬تجمعاتها‭ ‬الشاسعة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تُقسم‭ ‬إلى‭ ‬بنايات‭ ‬لمراحل‭ ‬مختلفة‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمدن‭ ‬التي‭ ‬لها‭ ‬ماضٍ‭ ‬تاريخي،‭ ‬توِّلد‭ ‬الانطباع‭ ‬التام‭ ‬بأننا‭ ‬أمام‭ ‬ديكور‭ ‬مسرحي،‭ ‬هذه‭ ‬الخاصية‭ ‬تثير‭ ‬انتباه‭ ‬الأجانب‭ ‬وسكان‭ ‬موسكو‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬هؤلاء‭ ‬يعتبرون‭ ‬المدينة‭ ‬‮«‬أوروبية‮»‬‭ ‬فإنَّ‭ ‬الأوروبيين‭ ‬الذين‭ ‬اعتادوا‭ ‬التراكب‭ ‬الهندسي‭ ‬للطرز‭ ‬الرومانية‭ ‬والباروكية‭ ‬والكوتيك‭ ‬والكلاسيكية‭ ‬يظلون‭ ‬مندهشين‭ ‬من‭ ‬الجمالية‭ ‬الأصلية‭ ‬والغربية‭ ‬لهذه‭ ‬‮«‬التجمعات‭ ‬الشاسعة‮»‬‭.‬ من‭ ‬المعالم‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬متحف‭ ‬الأرميتاج‭ (‬هيرميتاج‭) ‬الذي‭ ‬افتتحه‭ ‬القيصر‭ ‬الروسي‭ ‬نيقولا‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬فبراير‭ ‬1852‭ ‬بجوار‭ ‬قصره‭ ‬الشتوي‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬نيفا‭.‬،‭ ‬وهو‭ ‬المتحف‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬ضخامة‭ ‬مقتنياته‭ ‬من‭ ‬اللوحات‭ ‬الفنية‭ ‬العالمية‭ ‬لمشاهير‭ ‬الفنانين‭ ‬مثل‭ ‬ليوناردو‭ ‬دافنشي،‭ ‬ومايكل‭ ‬آنجلو،‭ ‬ورمبرانت،‭ ‬وسيزان،‭ ‬وفان‭ ‬جوخ،‭ ‬وغوغان،‭ ‬وبيكاسو،‭ ‬وماتيس‭ ‬وغيرهم،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬المقتنيات‭ ‬الضخمة‭ ‬من‭ ‬المجوهرات‭ ‬التاريخيّة‭ ‬والذهب‭ ‬القديم‭ ‬لشرق‭ ‬آسيا‭. ‬لقد‭ ‬أطلقت‭ ‬الأمبراطورة‭ ‬الروسية‭ ‬كاترينا‭ ‬الثانية‭ ‬اسم‭ (‬أرميتاج‭) ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المتحف،‭ ‬وهي‭ ‬كلمة‭ ‬فرنسية‭ ‬تعني‭ ‬الخلوة‭ ‬أو‭ ‬المكان‭ ‬المنعزل‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬عزلتها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬قواعد‭ ‬البروتوكول‭ ‬القيصرية‭. ‬وقد‭ ‬خضع‭ ‬هذا‭ ‬المتحف‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬تمثّل‭ ‬في‭ ‬ضمّ‭ ‬مقتنيات‭ ‬فنية‭ ‬جديدة‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬المجموعات‭ ‬الضخمة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالنبلاء‭ ‬الروس‭ ‬والطبقة‭ ‬الأرستقراطية‭ ‬الروسيّة‭ ‬بعد‭ ‬الثورة‭ ‬البلشفية‭. ‬ورغم‭ ‬أنَّ‭ ‬ستالين‭ ‬فرَّط‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬ألف‭ ‬قطعة‭ ‬فنية‭ ‬استثنائية‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬بيعها‭ ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬متحف‭ ‬الأرميتاج‭ ‬بقي‭ ‬محافظًا‭ ‬على‭ ‬صدارته‭ ‬العالميّة‭ ‬الأولى‭. ‬وهناك‭ ‬فروع‭ ‬كبرى‭ ‬لمتحف‭ ‬الأرميتاج‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬عالمية‭ ‬مهمة‭ ‬مثل‭ ‬أمستردام‭ ‬ولندن،‭ ‬ولاس‭ ‬فيغاس‭ ‬وفيرارا‭ ‬بإيطاليا؛‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يؤشِّر‭ ‬على‭ ‬الأهمية‭ ‬الثقافيّة‭ ‬والحضارية‭ ‬الكبرى‭ ‬لهذا‭ ‬المتحف‭ ‬الذي‭ ‬يحتفظ‭ ‬في‭ ‬مخازنه‭ ‬بمجموعات‭ ‬ضخمة،‭ ‬ولا‭ ‬يعرض‭ ‬مقتنياته‭ ‬جميعها‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭. ‬ولعلَّ‭ ‬زيارة‭ ‬إلى‭ ‬جسر‭ ‬الفنون‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬تجعل‭ ‬المتلقي‭ ‬يدرك‭ ‬وبعمق‭ ‬التأثير‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬والذائقة‭ ‬الفرنسيّة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬القيصرية‭ ‬التي‭ ‬أُسِّست‭ ‬لمحاكاة‭ ‬مدينة‭ ‬باريس‭ ‬حضاريًا‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬اتخذت‭ ‬طابعًا‭ ‬استثنائيا‭ ‬مغايرًا‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬إلا‭ ‬بها‭!‬ { بقلم‭: ‬الدكتورة‭ ‬ضياء‭ ‬عبدالله‭ ‬الكعبيّ أستاذة‭ ‬السَّرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬المشارك، كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين‭.‬

مشاركة :