سوق كما الحياة.. حياة كما المسرح (1ـ2)

  • 1/25/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

توشك سوق الرفاع الشرقي القديمة الواقعة في رأس الجهة الجنوبية كامتداد طبيعي لشارع الشيخ علي بن خليفة آل خليفة الرئيسي الذي يبدأ من رأس الجهة الشمالية للمدينة، توشك هذه السوق أن تكون نقطة البدء والنهاية لمختلف الجهات في الرفاع، حيث يلتقي الصوت بالصدى وحيث تدب الحركة بمختلف وتائرها الهادئة والصاخبة والمتموجة، وحيث تعج الحياة بأشكالها وأنواعها وألوانها الواقعية والغرائبية لتتمركز الرفاع برمتها في هذه السوق الشعبية التي تتعدد أشكال الحياة فيها بتعدد أنواع العرض والأمزجة والنماذج البشرية المألوفة وغير المألوفة.  فالصدى يبدأ صباحا مع أصوات وحركة الباعة المتجولين في مختلف أحياء الرفاع، حيث بائع الملح الفارسي محمد (نمك) يجوب بسيارته الفورد (البيكب) ذات الحوض العريض والمرتفع والمكشوف المملوء بالملح الفارسي، يجوب هذه الأحياء وهو يهتف (نمك.. نمك) وهي كلمة فارسية تعني الملح، ليحتشد حوله المشترون وخاصة من النسوة لتوفير احتياجاتهم المنزلية من الملح.  ويتواصل هذا الصدى مع صوت (جيرمد) صاحب العربة الخشبية المملوءة بالأواني الزجاجية والمعدنية، الجديدة والمستعملة، وهو يهتف بتغريدته المعهودة لدى أهل الرفاع وخاصة النسوة منهم (أنا بيز.. أنا بيز)، وتعني (من لديه بيض؟) وهو البيض الذي يتحصل عليه من أهل أحياء هذه الرفاع مقابل استبداله بهذه الأواني.  ويتقاطع هذا الصدى مع رنين الأجراس الصغيرة وصليلها التي تسور أعناق الحمير المسروجة بحبال متصلة بعربات خشبية مملوءة بالخضار والأسماك والفواكه والبرسيم وغيرها، يمتزج دبيب حركتها بصرصرات عجلاتها التي يقودها الباعة القادمين من القرى المجاورة، كقرية عالي والنويدرات والعكر، وهي متجهة صوب السوق في رأس الجنوب، محدثة حوارا غير متجانسا بينها وبين نهيق هذه الحمير المتقطع بفعل المسافة والجلد بالهراوات المطاطية السوداء والعصي النخلية الصلبة.. ويتخلل هذا الصدى حركة البائعات المتجولات اللواتي كن يحملن على عواتقهن أو رؤوسهن صرر البضاعة المتنوعة وخاصة الأقمشة والاكسسوارات اللواتي يرغبن في شرائها واقتنائها النسوة في الأحياء، وهن يتجهن صوب بعض البيوت لتلبية طلبٍ سابق من أهل هذه البيوت أو لعرضٍ جديد لبضائعهن، وكان يطلق على هؤلاء البائعات (الحيّامات) ومفردها (حيّامه)، وأغلبهن من السلالات (البلوشية) التي استقر بها المقام منذ زمن طويل في البحرين، وتتميز ملابسهن الموشاة بالعباءات السوداء الخفيفة السمك والقصيرة، بالألوان الفاقعة التي يعشقنها النسوة الغجريات في الغالب. ويترافق هذا الصدى مع صرير أبواب الدكاكين وهي تستقبل صباح الرزق، بدءا من رأس الشمال، حيث مخبز الخباز أحمد محمود الحلو وامتدادا بدكاكين عبدالله بن فيصل البوعينين، هذه الشخصية التي لم أرها قط في حياتي إلا وهي مرتدية (الشلحات) وكما لو أنه بشاربه المعقوف إلى أعلى أشبه بقرصان قائد قديم، بجانب دكاكين حسين المنامي ومتجر شباب الرفاع لصاحبه الأستاذ حسن السبيعي والذي لا يفتحه إلا مساء لزملائه من المدرسين وشباب الرفاع المثقفين، بجانب دكاكين علي بن عريك وناصر بن حسين والسيد الذهب بائع الحلوى العمانية والذي استأجر دكانته من الوالد ثم تبعه بعد سنوات الهندي مارسيل الملقب بـ(بجو) ليحول هذه الدكانة إلى مغسلة لغسيل وكي الملابس، ومخبز الخباز يوسف حسن الملقب أيضا بالخباز والذي يجاور جامع الرفاع المحاذي لشارع الشيخ علي بن خليفه في وسط الرفاع، ودكاكين المؤذن أحمد حمود والمؤذن السابق خليفة البوسميط بائع التمر وبعض الخياطين الهنود والباكستانيين الذين أقاموا في الرفاع منذ فترة طويلة. ويتواصل الصدى مع باعة (الفرشات) جنوبًا الذين يبيعون بعض متلبيات طلبة مدرستي الرفاع الشرقي الابتدائية للبنين والرفاع الشرقي الابتدائية الإعدادية للبنات ومستشفى الولادة وعيادة الرفاع العامة باتجاه الغرب من الجنوب، ومع محل النداف يوسف الذي يعد أول ناسج وبائع للمفارش والمساند والاستراحات والوسائد القطنية في الرفاع والذي يقابله من جهة الشمال متجر أو (حفيز) التاجر خليفة الدوسري المعروف بذكائه وخبرته في السوق والذي كان يبيع الثلاجات والراديوات، وربما يعتبر هو أول تاجر في الرفاع يختص ببيع مثل هذه الأجهزة الكهربائية المنزلية الضرورية إبان ستينيات القرن الماضي، ويقع (حفيزه) بالقرب من الدار الصغيرة، وهي دار شعبية لممارسة الفنون التراثية الأصيلة، وهو والد صديق الطفولة والصبا والحياة الدكتور إبراهيم خليفة الدوسري وهو واحد من أهم الفاعلين عالميا في مجال التنمية البشرية، وكانت علاقتنا قد امتدت منذ الدراسة الابتدائية بمدرسة الرفاع الشرقي الابتدائية للبنين، وكان بصحبتنا أيضا الصديق حامد أحمد عبدالرحمن ويعقوب يوسف الفهيد. وبالقرب من (حفيز) التاجر خليفة الدوسري، يقع دكان (عبيد) الصغير الذي اختص ببيع المشروبات والمأكولات والبالونات التي يرغب في شرائها الأطفال والصبية وكذلك محل خليفة بوحميده الذي لا تختلف بضاعته كثيرا عن بقية الدكاكين الصغيرة في الرفاع.  ويرتفع صوت صرير بوابات المحال التجارية في الرفاع جنوبا، حيث (حفيز) التاجر خليفة النشمي والذي يعد مركزا تجاريا إذا ما قورن بالمحلات والدكاكين المتواضعة التي أتينا على ذكرها وسنأتي على ذكر بعضها، وهو أول تاجر في الرفاع كان يبيع (خراطيش) أو رصاص بنادق الصيد وكنا نطلق عليها آنذاك (الصجم)، كما أنه أول من بنى عمارة للإيجار في الرفاع وكانت تتوسط شارع الشيخ علي بن خليفة في مواجهة جامع الرفاع، والتي ضمت ناشدي السكن في الشقق وبعض الدكاكين، وأذكر من بينها دكان النجار راضي ودكان السعودي الأصل سعيد المدحوب وابنه حمد، وهو عبارة عن ورشة لتصليح وبيع الأدوات الكهربائية الخفيفة والصغيرة.  وفيما يصل صدى (حنحنة) منجرة علي البنخليل الكهربائية الاحترافية من أقصى الشمال متجاوزة بقالته الملاصقة لها، إلى أول راغب لصناعة أثاث أو مخزن للطيور أو أبواب في قلب الرفاع، كان السوبر ماركت الحديث ليوسف القعود جنوبا باتجاه مركز شرطة الرفاع القديم يعج بلقط المشترين لأجود المأكولات السريعة التي ممكن التلذذ بها في استراحات نوبات العمل. ويتقاطع هذا اللقط مع أزيز وقرقعة المطارق الحديدية ولهب النار الصادرة من أفواه أنابيب قطع الحديد ورأبه في ورش اللحام والبرادة في وسط الرفاع بالقرب من الحي الذي أقطن فيه، وهو ضجيج يعْبره التاجر محمد بن يوسف الدوسري (الزلاقي) بهدوء اعتاد عليه كل صباح ومساء وهو يستقبل زبائنه من مختلف أحياء الرفاع وخاصة وسطها وشرقها، ولا يصبح الحديد باردا إلا إذا أخذك الصدى نحو (برّاد) عبدالله حسن الملقب بـ(بياز) الذي يبعد عن رأس السوق بأمتار قليلة، وهو أول بائع للثلج في الرفاع، وكما أعتقد للغاز أيضا، حيث يجمع في (براده) النقيضين معا، ويتفاعل هذا الصدى شرقا مع دكانة محمد الملا السويدي وورشة (بوتليف) ودكانة علي العاثم، ليعود ثانية ليستقر في الوسط على مقاعد دكان صالح بن علي الذي يتوسط الحي وكما لو أنه باب آخر للبيت الذي يقطنه أهل هذا الدكان المتواضع.  ومن المعروف أنه إبان الستينيات وحتى أوائل السبعينيات، كانت أغلب دكاكين الرفاع التجارية ملكا للباعة فيها ومكونة كجزء لا يتجزأ من مرافق البيت، كالمجلس مثلا، إذ يتواجد في بعضها القليل القليل من البضائع التي لا تتجاوز حدود الاستهلاك الآني والسريع، بل أن بعض المحال حولها أصحابها إلى مجالس للتسلية أو أندية مؤقتة يجتمع فيها أصحاب هذا المشروع الرياضي حتى يؤذن لهم بترخيص لناد رياضي صغير.  ولكن عجلات باص شركة بابكو الخضراء الطويلة (سالم الخطر) القادمة من الشمال باتجاه الجنوب، تقطع بحركتها وبوقوفها بالجوار من مقهى (السيدة أم كلثوم) لفرج مفتاح، في الناصية اليمنى من السوق هذا الصدى، لتلحظ عمال بابكو وهم يغادرون خفافاً أول وأشهر مطعم لوجبة (الناشف) في الرفاع، لصاحبه عبدالله حسين العرادي الذي يرتاده أهل الرفاع حتى وقت متأخر من الليل، وليبدأ معه هدوء وصمت التاجر محمد ابن الشيخ في محله المجاور لهذا المقهى والمطعم أيضا، ولنستمع في ظل هذا الصمت إلى قصقصات الحلاقين الهنود والباكستانيين وهم يمررون مقاصهم وأمشاطهم الرفيعة لتشذيب شعر زبائنهم، مثلما يمررون ماكينات الحلاقة لتنعيم الوجه وتعطيره بـ(الكولونيا) المتداولة في محلات الحلاقة كلها في البحرين.  ويتآزر هذا الصدى بسكونه وضجيجه أحيانا مع حركة وإيقاع البنائين في مختلف أحياء الرفاع والذين يقودهم ويتقدمهم في الغالب كبير البنائين ومهندسهم محمد البناّي الذي قام ببناء بيتنا وسط الرفاع وزخرف غرفته العلوية بهندسته التراثية، والبناء حسن الجناحي الذي أصبح من أشهر البنائين والمقاولين في الرفاع من بعده، وتزداد وتيرة البناء وإيقاعها حين يفتح التاجر علي السندي محله المجاور للسوق، حيث أكياس الإسمنت وأدوات البناء والأصباغ والأدوات الصحية تجد لها موقعا أثيرا في نفوس من ينوي أن يبني بيتا جديدا أو يرمم بيته.   ويتخاطف هذا الصدى صوت إيقاع العجلات وهي تنخرط مسرعة في مختلف الأحياء، لنتبين أن مصدرها مؤجِّر وميكانيك الدراجات الهوائية في الرفاع عيسى بن حشر الدوسري الذي يقع محله على الناصية الأمامية لسوق الرفاع، والذي أجزم أنه ساهم في تعليم أهل الرفاع قيادة الدراجات نظرا لأجرته الزهيدة التي يتقاضاها على تأجير العجلات. وعلى مقربة منه جنوبًا، مكتبة عيسى صخير ومكتبة عيسى فرج الخاصة بالجرائد ومكتبة حمد المناصير ومحل كرمستجي لبيع الاكسسوارات والأزرّة النسائية، وهو من الطائفة البهائية التي قطنت الرفاع في وقت مبكر وتجاورت بالحب والخير مع أهلها، وكانوا يسكنون بالإيجار آنذاك في بيت المرحوم الشيخ خليفة بن سلمان بن حمود آل خليفة بعد أن استقر مع أبنائه وزوجته في بيت آخر، وهذا البيت كان مجاورا لبيتنا من جهة الغرب.  وتنتظم إيقاعات أصداء هذه السوق المتباعدة المتقاربة المتباينة في الرفاع كلها بدندنات العم سالم بونوفل المعروف بـ(بونفل) على أوتار العود، والذي اختار له محلاً صغيرًا في بيته المجاور لبيتنا بشارع الشيخ علي بن خليفة، وذلك لصناعة الأعواد وتصليحها ومجلسًا يلتقي فيه بصحبة أهل الفن والعمل بعد أن تعرض لإصابة عمل ثقيلة أقعدته مضطرًا في بيته، وكان ابناه فهد رحمة الله عليه وجاسم من أعز أصدقاء الطفولة بجانب سعود عبدالعزيز بن عريك والدكتور أنور يوسف العبدالله سفيرنا في الصين حاليا.  وفي اللحظة التي يدير فيها الخياط الهندي حسين ماكينة خياطته، وتجف نغاتيفات الصور الفوتوغرافية في محل التصوير المجاور له، ويهدأ محرك الموتر سيكل (الدراجة النارية) القديمة لعتيق بونوفل رحمة الله عليه وهو النجل البكر من الأولاد لسالم بنوفل، يكرُّ بائع وصانع المسابيح في الرفاع سلطان المحبوب مسبحته وهو يختبر انعقادها وتماسكها من خلال نظارته الطبية المزججة السميكة قرب سجادته الصغيرة التي افترشها بالجوار من الشارع الشرقي الموازي للشارع الرئيسي، لتنفرط إحدى خرزاتها منفلتة باتجاه قلب السوق وكما لو أنها تعلن بداية دقات نبضه.

مشاركة :