سوق كما الحياة.. حياة كما المسرح (2ـ2)

  • 2/1/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

هنا حيث يصبح الصدى همسًا يسبق عاصفة السوق التي ستهب وستضج بكل أشكالها وحيواتها بعد قليل، حيث الحياة في أقصى حالات تجسدها وتمسرحها، تتكثف هذه الأصداء بمختلف تنويعاتها الصوتية والبصرية والحركية لتتدفق كلها في قلب السوق، إذ تصبح ساحته المفتوحة والمسقوفة فضاء للعرض والمشاركة والفرجة معًا، وتتداخل هذه التنويعات أحيانًا لتشكل مشهدًا جماليًا تأسرك ألوانه ورائحته ونكهته وهي تشتبك وتتقاطع مع بعضها البعض لتصبح صورة حية مجسدة لا يدركها إلا من كان في قلب هذا المشهد.  في قلب هذا السوق يتقاطر الباعة والمبتاعين معًا، وكما لو أنه فعلاً موعدًا متفقًا عليه للعرض الآن وهنا، فيشرّع الباعة بوابات محالهم، بدءا من أول رأس السوق المقابل للساحة والسوق المسقوف، حيث محل (المغني) للكهرباء ومن ثم محل عبدالله كمال فمحل صالح بن علي التجاري، وهو أكبر هذه المحلات في السوق، وانتهاء بمحل علي العطاوي بائع الدراجات المجاور لبيت يوسف العبدالله الذي يضم نخبة أهل الرفاع المتعلمين والمثقفين والمنفتحين. وفي مقابل هذه الواجهة من جهة اليمين تتربع سوبر ماركت عبدالحميد شكر الله وشقيقه حمد على ناصية السوق المسقوف المفتوحة، وهي واحدة من أهم السوبر ماركت في سوق الرفاع، وكانت تتوفر فيها ألذ السندويتشات الجاهزة ومعلبات المشروم والأجبان والصلصات الخاصة ببعض الوجبات والسجق، ويعتبرها أهل الرفاع بأنها سوبر ماركت إنجليزية نظرًا لما تتوفر عليه من وجبات ومشروبات فريدة لم يعتد أهل الرفاع تذوقها أو تناولها، كما تعتبر هذه السوبر ماركت أول من قام ببيع الهامبرجر المشوي في الرفاع، وذلك باستخدام حميد شكر الله الشواية الحديثة الخاصة بطهي وشواء هذه الوجبة، وكان يضعها مساء بالقرب من تشارترد بنك على طرف الشارع الرئيسي، وكما أعتقد أن هذه السوبر ماركت اشتراها فيما بعد يوسف العبدالله.  وعلى يمين هذه الناصية يمتد السوق المسقوف، حيث محل سلمان عبدالله العاثم لبيع الفخاخ والبوتوغازات التقليدية التي يطلق عليها آنذاك (كَول) ومفردها (كَوله) وبالجوار منه من ناحية الجنوب مقهى حمد شريده الشعبي البسيط جدا، ويقال أنه أول مقهى في الرفاع، ومن بعده محل عبدالرحمن السعد، والذي يضم الأحذية الرياضية المميزة وبعض الأدوات الصحية والأقفال، وكان يلقب بعبدالرحمن البطاقة، وتعني أنه كان خلال بيع الرز والسكر ببطاقة التأمين آنذاك، كان هو أحد من يشرف على هذه البطاقة، والتصق به هذا اللقب لهذا السبب. وفي مقابل محل عبدالرحمن السعد نكون في قلب تنور مخبز أمين، وهو أول خباز في الرفاع، إذ كان يبيع الخبز والفول والفاصوليا (اللوبه) السوداء الصغيرة، وبالجوار منه محل أحمد الدوك لتصليح البوتاغازات اليدوية التقليدية، وفي الفسح الأوسع للسوق المسقوف ينتشر باعة الخضار التي تعرض على صناديق خشبية مغطاة بصفائح معدنية وبالخيش.  وفي الساحة الخارجية يزداد لهيب الحركة ودبيبها في السوق، حيث باعة البرسيم وأعلاف الأغنام والأبقار، وحيث البهائم وحيث باعة السمك الذين يفترشون أغلب ساحة السوق الخارجية قعودًا على ساحات قماشية أو حصر خشنة، وخيش يضعون عليها قفافهم أو سلالهم الكبيرة الممتلئة بالأسماك، وكان يطلق عليها آنذاك (المراحل)، وكان من بينهم علي بن راشد الرويعي، وفي جانب آخر من الساحة من جهة الجنوب، تباع الأسماك أيضًا على مصاطب وعلى صناديق بجوار اللحوم. وفي ظهر السوق جنوبا، نكون فيما يشبه الزقاق المفتوح على بيوت متجاورة، حيث محل إبراهيم الخزرجي الأنصاري والملقب بإبراهيم (الباش) والذي كان يبيع الصابون المجفف مثل (سيرف) الذي كنا نجمع أغطيته مقابل حصولنا على آنية أو علبة حليب، وحليب النيدو وحليب الرينبو واحتياجات منزلية عدة، وكان إبراهيم الخزرجي يتميز بهدوء غير عادي وهو مهتم جدًا بهندامه كتاجر معروف في السوق، وبالجوار منه بائع السمبوسة والكباب والجباتي الذي تغري رائحته غالبًا على شراء الخبز الساخن وحشوه فيه باعتباره سندويشنا الشعبي آنذاك، وفي مقابل هاذين المحلين نكون في مخبز (الصمون) بمختلف أنواعه، وكان صاحب المحل يدعى أحمد العدني، وبالجوار منه متجر معيوف الرميحي، وهو سائق تاكسي أيضًا، وكان بالجانب الشرقي بجوار السوق مخبز نور، وكان يعمل معه كل أبنائه، بما فيهم صديق الطفولة والصبا أحمد نور، وهو من الذين تميزوا في دراستهم وعملهم فيما بعد من بين أقرانهم. وكان (اصغير) وهو من أصول عمانية أشهر (حمّالي) في سوق الرفاع، ويتحمل أثقل وأكبر البضائع، حيث يضعها على عربته ويجرها بيديه إلى حيث يكون البيت، قريبًا كان أو بعيدًا، ومن ثم يحملها إلى حيث مخزن البيت أو ما شاكله.  وكانت سيارات التاكسي التي تتخذ لها موقعا للتجمع بالقرب من السوق جنوبا، والتي بعضها يؤثر الحركة من مكانه بحثًا عن زبائن هنا أو هناك، بالقرب من هذا الشارع أو ذاك، كانت في حد ذاتها حراكًا موازيًا لحركة السوق، وأذكر من بين سائقي التاكسي، جمعه بن سالم وأحمد البوعينين وعبداللطيف بوشميس وإبراهيم الأنصاري ومعيوف الرميحي.  في هذه السوق تلحظ كل شخصيات المجتمع من الرفاعين (الشرقي والغربي) متواجدة فيه، من شيوخ وتجار وعمال وميسورين وفقراء معدمين وأطفال، والكل يعرف بعضه وكما لو أنهم من حي واحد، أو كما لو أن الرفاع وما جاورها من قرى سوقا واحدة تضم الجميع، وتحلو الحياة في السوق لحظة المفاصلة على البضاعة، حيث تجد أنها تتحول تلقائيا إلى حالة مسرحية، والشاطر من يقنع الآخر بدلوه، وكانت متعتي الحقيقية حين يصحبني والدي معه في السوق وأعيش أجواءَه المتحركة والحية التي تثير الفضول، وتكمن سعادتي حين أحمل معه بعض ما اشتراه من السوق للبيت، أو كلفني يومًا في أن أشتري العلف لأغنام وأبقار الجدة نورة، حيث يبدو شكلها وهي متراكمة على جسدي الصغير الغض أكبر مني سنًا. وكثيرًا ما تستوقفني بعض الشخصيات التي كنت أراها في طفولتي بمثابة أساطير أو كائنات غير عادية، فأظل بمحاذاة والدي في السوق أتأملها باستغراب، مثل داوود، هذا الرجل الكهل القوي الحالك السمرة الهادئ الملامح والذي غالبًا ما يحكم (الغترة) على رأسه وكما لو أنها عمامة، وكنا نطلق عليها (اجريمبه)، كان أحد أقوى من يهدون الجدران الطينية بحبالهم، وكنا نستغرب قوته وقدرته على ثني العملة المعدنية (الروبية) بسبابته وإبهامه وهو مرتخ غير متشنج وكما لو أن هذه العملة أشبه بالورق، ومن بين هذه الشخصيات الأسطورية، مرزوق صانع الحبال بمختلف أنواعها وأطوالها، حين تراه في السوق تشعر أنك أمام صانع لأشرعة سفينة ستنطلق بعد قليل من مرفئها إلى البحر، كذلك سلطان العود، وهو رجل بقامة طويلة وعريضة، حين يحضر السوق أشعر أن كل من فيه أقزاما، شخصيات أسطورية كانت بالنسبة لي في طفولتي، لذا لا يمكن نسيانها مهما تقادم العمر بي.  واللحظة الأخرى التي تسعدني، هي لحظة مشاهدة جدي علي بن راشد الحمدان رحمة الله عليه وهو يذرع بقدميه الرصيف المجاور لشارع علي بن خليفه باتجاه بيتنا بوسط الرفاع حاملا معه بعض الأسماك وخاصة سمك الصافي الذي كان يشرف على طهيه وغليه بنفسه، كانت ابتسامته الأبوية الحميمة تسكن قلبي ووجداني، وتزداد فرحتي حين يدس في يدي روبية، تعادل مائة فلس، قبل أن يغادر بيتنا متجها إلى بيته في الرفاع الغربي. وتنتعش الحياة بالنسبة لنا حين يغادر الباعة السوق، حيث نبدأ في تقليد بعض ما شاهدناه في السوق واستحضاره فيها، وأذكر أن الصديق الفنان عبدالله السعداوي أخرج سكيتشا عن السوق في نادي الهلال، وكان شرطه على من يود التمثيل بيع تذاكر رمزية لدخول العرض، فشارك من بين هؤلاء الأطفال آنذاك إبراهيم خليفة الدوسري وشقيقه خالد.  وحين أعود للوراء، أكتشف أن أول نص مسرحي ألفته وأخرجه عبدالله السعداوي في نادي الرفاع الغربي، كانت أحداثه تدور في السوق، حيث الصراع بين التجار الكبار والتجار الصغار وزبائن السوق، وكان عنوانه (من الغلطان)، وقد أدى أدواره الفنانين غالي راشد رحمة الله عليه والفنان الصديق سعد أحمد الرويعي وأحمد البنغدير وعبدالله السعداوي.  في السوق كل شيء يتمسرح أو يكون قابلا للتمسرح، فهي الحياة إذ تتكثف في رقعة مفتوحة ومتداخلة على بعضها لتصبح كل نماذجها ممسرحة، وكل أجوائها الطبيعية مهيئة لأن تكون كذلك. وحين يغادر أحمد الدوك محله من السوق المسقف المجاور لمحل كرم وأبنائه الذين غادروا البحرين إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في وقت مبكر، حين يغادر على دراجته النارية وبيده عصًا طويلة يتقدم رأسها مسمار محني، متوجها صوب أعمدة النور بشوارع الرفاع، ندرك أننا بفتحه مفتاح هذه الأعمدة ستضاء الحياة مجددا في السوق والأحياء لنبدأ عرضًا طفليًا جديدًا بعد أن أسدلت السوق ستارها وانفض البائعون بعرباتهم التي تجرها الحمير باتجاه قراهم بعد أن أنعشوا ساحته الداخلية والخارجية بأدائهم السلعي الحيوي المميز والذي اعتاد عليه أهل الرفاع وكما لو أنه عرضًا مسرحيًا لا يملون مشاهدته وإن تكرر كل يوم.  تضاء الأنوار وتظل ساحة السوق مشبعة بمختلف الروائح والنكهات التي يصعب أن تغادر الذاكرة.

مشاركة :