الثقافة لمقاومة الإرهاب - د. مشاري بن عبدالله النعيم

  • 11/21/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

يرى بعض المهتمين أن أحداث باريس الأخيرة في 13 من الشهر الجاري هي إرهاب لهدم الثقافة والحياة المتحضرة فقد كانت كل الهجمات على مظاهر حياتية مرتبطة بأسلوب الحياة المعاصر. إنها محاولة لعزل الناس عن "التحضر" خصوصا في مدينة يطلق عليها العالم أجمع منذ قرون "مدينة الأنوار". المنطقة العربية تخسر تاريخها وتراثها وتغرق في الإرهاب وهذا يجعلنا أكثر من غيرنا نفكر كيف نعالج هذه الكارثة ولا سبيل لنا لتحقيق ذلك إلا باستعادة الحياة الثقافية المتوازنة. ولقد صادف أنه بعد أيام من الحادث وبالتحديد يوم الأربعاء الفائت أني شاركت في الجمعية العامة للإيكروم 29 في مقر منظمة الفاو في باريس (وهي مؤسسة تدريبية وتعليمية لها ارتباط باليونسكو تعنى بصيانة المباني التاريخية تأسست عام 1956م) وذكر وزير التراث والسياحة الإيطالي في كلمته الافتتاحية أنه يجب علينا مقاومة الإرهاب بالثقافة، وليس العكس، أي أنه لا يجب أن نسمح للإرهاب أن يقلص مظاهر الثقافة العامة ولا يدمر مبادئ التحضر التي يعيشها العالم المعاصر. هذا ما أكده مساعد وزير الخارجية الإيطالية في افتتاح الجمعية العامة حيث أكد أن "هناك من يريد الإرهاب ليدمر الحضارة ويجب علينا العمل على بناء الحضارة للقضاء على الإرهاب". لقد اتفق المهتمون بالسياسة والثقافة على أهمية مقاومة الإرهاب بالعمل الثقافي فقد أعلن الرئيس الفرنسي (هولاند) يوم الثلاثاء الفائت في كلمته للجمعية العامة لليونسكو في باريس أن فرنسا سوف تنشئ حق اللجوء للقطع الأثرية التي يهددها داعش، في ردة فعل واضحة للعمل الهمجي الذي يقوم به التنظيم في تدمير المواقع الأثرية في العراق وسورية. كما أن سيلفا كوستا (رئيسة اللجنة الثقافية والتعليم في البرلمان الأوروبي) قالت في كلمتها في الإيكروم إنه من الواضح أن هذه التنظيمات الإرهابية تحاول أن تقضي على رموز الثقافة والحضارة وهذا ما يجب علينا أن نقاومه. ردود الفعل على الحدث الباريسي استنهضت الحس الثقافي العالمي كون هذه المدينة العاصمة الأولى للثقافة في العالم، ولعل هذا ما يجب علينا مراجعته في العالم العربي حيث نظم مركز آثار إيكروم الشارقة لقاء لمديري التراث في العالم العربي على هامش اجتماع الإيكروم تم فيه طرح إستراتيجية بعيدة المدى لحماية الثقافة والإرث الثقافي في المنطقة العربية التي تعاني أكثر من غيرها من ويلات الإرهاب. وهذا ما أشار إليه مستشار رئيس إيطاليا لصون التراث (لوي جويدار) الذي تحدث عن عالم الآثار السوري خالد الأسعد الذي اغتاله تنظيم داعش ببشاعة، وكيف أنه عمل مع هذا العالم العربي عام 2010م في مدينة تدمر. المنطقة العربية تخسر تاريخها وتراثها وتغرق في الإرهاب وهذا يجعلنا أكثر من غيرنا نفكر كيف نعالج هذه الكارثة ولا سبيل لنا لتحقيق ذلك إلا باستعادة الحياة الثقافية المتوازنة. لا أريد أن أخوض مع القارئ في التفاصيل لكن اهتمامي هنا هو استعادة مظاهر الحياة الثقافية في مدننا العربية والإصرار على أسلوب الحياة المتحضر الذي يجب أن يعيشه الناس في هذه المدن كوسيلة ناجعة لمحاربة الفكر المتطرف. سأشير لعبارة الدكتور (نودورو) من زيمبابوي وهو الفائز بجائزة منظمة الإيكروم هذا العام الذي قال "كيف يمكن للإرث الثقافي أن يُسكت صوت مدافع الإرهاب". ولعل الإجابة أتت في كلمة المدير العام للإيكروم (ستيفانو دي كارو) الذي قال إن حماية الإرث الثقافي تنتج عن توعية طويلة، وأكد المدير العام أن هدفنا هو "بناء مجتمع أكثر عدالة يرتكز على قيم جديدة". والحقيقة أن عبارة الدكتور (نودورو) لفتت انتباهي وجعلتني أفكر في الخطوة القادمة التي يجب علينا أن نعمل من أجلها في عملنا في مجال صون التراث الثقافي الوطني، فالهدف من صون التراث هو تحقيق العدالة الاجتماعية وإشاعية الحياة الثقافية المتوازنة. ولعل هذه الفكرة غائبة إلى حد كبير في عالمنا العربي، فكثير من الناس لا يعلم لماذا نهتم بالتراث ونعمل جاهدين على صونه وحمايته بل إن بعضهم يستهجن هذا العمل ويعده من ضروب "تبديد الموارد" وتضييع الوقت والسبب في ذلك أن بناء الوعي الثقافي قاصر ولم ينضج بعد وهو ما يمثل الإشكالية الحقيقية التي تفرخ التطرف الفكري في بلادنا. العالم يتجه إلى تكريس قيم ثقافية عالمية توحد الجنس البشري على مستوى الحقوق وخصوصا الحق في عيش آمن يضمن له العدالة الاجتماعية لذلك فإن عام 2018م سيكون عاما عالميا للتراث. ربما هذا ما أرادت فيرونيك دوج (مديرة مكتب اليونسكو الإقليمي للعلوم والثقافة في أوروبا) التي سبق لها أن عملت مع الهيئة العامة والتراث الوطني في بداية إعداد ملف مدائن صالح للتراث العالمي، أقول ربما هذا ما أرادت أن تقوله عندما أشارت للمعاهدة الدولية للإرث الثقافي الإنساني عام 1972م فهذه الاتفاقية تعمق مفهوم "الحوار من خلال الثقافة"، وهذا ما يحتاج له العالم المعاصر الذي يبدو أنه بدأ يبتعد كثيرا عن القيم العظيمة التي حاول أن يضعها رجال الثقافة بعد الحرب العالمية الثانية التي عانى العالم أجمع من ويلاتها. العلاج بالثقافة، ربما يكون المبدأ الذي يجب أن نعمل من أجله، وأقصد هنا علاج التطرف الفكري بالعودة للمنابع الثقافية الأصيلة المرتكزة على تراثنا الحضاري، وتعزيز هذه المبادئ في نفوس وعقول الجيل الشاب أصبح مطلبا وطنيا ملحا. كما أن التواصل مع المجتمع الإنساني والتحاور معه ثقافيا يعد من المسائل الأساسية لتقريب الفكر الإنساني لأبنائنا وإخراجهم من العزلة الثقافية التي يعيشونها، فمن لا يعرف تراث وطنه ويعيشه بشكل عميق وكامل لن يستطيع أن يفهم ثقافات الشعوب الأخرى، فالحوار من خلال الثقافة يتطلب اولا أن يملك شبابنا أدوات الحوار المحلية وهي بكل تأكيد مرتبطة ومستمدة من تراثنا الوطني. لعلي هنا أؤكد في كلمة أخيرة في هذا المقال على أهمية الحياة الثقافية المدنية في إحداث حياة متوازنة بعيدة عن الفكر المتطرف الذي يولد الإرهابيين كل يوم. نحن بحاجة فعلا إلى تبني الحياة الثقافية المعاصرة بشكل متوازن يتناسب مع قيمنا وديننا، فلماذا لا يكون هناك مسرح ودور سينما معتدلة؟ ولماذا لا تتشكل حياة ثقافية فكرية وأدبية وفنية تجذب شبابنا، ولماذا لا يعاد النظر في كثير من مظاهر الحياة الجامدة التي تعيشها مدننا وتعزل شبابنا وتوجههم إلى أحضان الفكر المتطرف؟ هذه الأسئلة كلها هي جزء من قناعتي الكاملة بحتمية الحوار من خلال الثقافة كمنفذ وحيد لمحاربة الإرهاب، لأن كل الحلول الأمنية "مؤقتة" أما حلول الثقافة فهي تخترق البنية الفكرية للمجتمع وتعيد تشكيله من جديد وهذا ما نحتاجه في الفترة القادمة. لمراسلة الكاتب: malnaim@alriyadh.net

مشاركة :