العالم يتجه إلى بناء شراكات جديدة تجعل من "الثقافة" محركاً اقتصادياً أساسياً لتنمية الشعوب. في المؤتمر الأول للسياحة والثقافة الذي عقد نهاية الأسبوع الفائت (4-6 فبراير 2015م) في مدينة سيام ريب "آنجكور" الكمبودية ونظمته هيئة السياحة العالمية ومنظمة اليونسكو كثمرة لأول تعاون من هذا النوع بين المنظمتين يشير إلى التأثير المتزايد للسياحة على الاقتصادات العالمية فهناك أكثر من مليار مسافر سنويا حيث أصبحت السياحة "حقاً إنسانياً" وليست فقط حاجة إنسانية، على حد تعبير الأمين العام لمنظمة السياحة العالمية الدكتور طالب الرفاعي. هذا المؤتمر يحاول أن يخفف من المخاوف التي عادة ما يثيرها المهتمون بالمواقع التراثية والثقافية من أن السياحة يمكن أن تدمر هذه المواقع، وأن توظيفها سياحياً يجب أن يكون مدروساً بينما تصاعد مساهمة السياحة في الاقتصادات العالمية صار يفرض واقعا مهما يجعل الجلوس على طاولة مشتركة ومناقشة التوفيق بين السياحة والثقافة أمراً واقعاً. هذه الظاهرة الثقافية/الاقتصادية الجديدة لها ما يبررها حتى على المستوى الحضري نتيجة للهجرات من المواقع الأقل نمواً إلى المواقع الحضرية الكبرى للبحث عن العمل وفرص للكسب. الظاهرة الجديدة ستعيد تشكيل خارطة المواقع التي يمكن أن توفر فرص عمل على مستوى العالم وستعيد الهيبة للكثير من المواقع الأقل تمدناً لكنها الأعمق ثقافياً التي صارت تشكل عصباً مهماً من أعصاب صناعة السياحة المعاصرة. لكن المخاطر تبقى قائمة على هذه المواقع نتيجة للضغوط الاستثمارية التي قد تواجهها، لكن العلاج متوفر وإمكانية إيجاد معادلة للتوازن بين الثقافة والسياحة يمكن تحقيقها. بناء شراكات جديدة تقرب وجهات النظر وتجعل من "الثقافة" محركا اقتصاديا مستداما، يذكرني بما ذكره الأمير سلطان بن سلمان منذ أكثر من عقد بأن مواقع التراث العمراني في المملكة هي "آبار نفط غير ناضبة"، هذه الرؤية الاستشرافية قدمها الأمير في كلمته يوم الأربعاء الفائت في هذا المؤتمر المهم، فالمملكة بما تملكه من موقع متوسط شكلت على الدوام بداية لكثير من الحكايات الثقافية ومثلت التمازج الثقافي بين الشرق والغرب. طرح الأمير يؤكد على مساهمة المواقع التراثية والثقافية في التنمية المحلية في المملكة ويؤكد على أن "السياحة" هي المحرك الذي سيجعل هذه المواقع تساهم في التنمية المستدامة التي نطمح لها. ولعلي أذكر هنا أنه قبل أيام فقط من المؤتمر تم تأسيس "شركة الضيافة التراثية" كباكورة لمنظومة ضخمة بإذن الله تستثمر في "الثقافة" وتوظف المخزون الضخم الذي حبا الله به بلادنا. دون شك أن الثقافة هي لغة التواصل العالمية التي تقرب بين الشعوب إضافة إلى كونها مجالاً مولداً للفرص الاقتصادية ومحركاً من محركات التنمية المحلية. شعار "فكر عالميا وأعمل محليا" الذي تم نحته مع بزوغ العولمة ربما كان يتوقع هذا التمدد الكبير للثقافة داخل السياحة العالمية، فالمشكلة المحلية التي تمثلها المواقع الثقافية بحاجة إلى هذا التوسع السياحي الاقتصادي الذي يجعلها قابلة للاستمرار ويزيد من أهميتها لدى السكان المحليين. هذه الظاهرة التي أصبحت تشكل مفصلا تنمويا عالميا فرضت نوعا من الحوار الكوني حول مستقبل هذه المواقع خصوصا في الدول النامية التي تتطلب دعما ماليا، وهو الأمر الذي يتطلب أن تكون استدامة هذه المواقع ذاتية من خلال الدخل الذي يمكن أن تنتجه وهذا لا يمكن أن يحدث دون "سياحة". الأمر المؤكد هو أن علاقة السياحة بالثقافة في اطراد مستمر، وأن هذا التلازم أصبح جزءاً من الحضارة الإنسانية المعاصرة التي أصبحت بحاجة أكثر من أي يوم مضى للاحتفال بتنوعها واختلافاتها يبدو أن جدل الاستدامة في مجال الثقافة والتراث يمر بدهاليز عديدة فهل نركز على الاستدامة الاقتصادية للثقافة أو نركز على استدامة الثقافة نفسها، وما أقصده هنا هل نفكر في العوائد الاقتصادية التي يمكن أن تحققها المواقع التراثية أم نفكر أولا في كيف نحمي هذه المواقع وننظم توظيفها من الناحية السياحية حتى تدوم وتستمر. أحد الأمثلة المهمة هي المعابد التاريخية في "آنجكور" التي عقد فيها المؤتمر فهي مصدر الدخل الأهم لهذه المدينة، فدون هذا الموقع الثقافي، المكان برمته لا يعني أي شيء. الفكرة هنا في الأثر الاقتصادي الذي تركه إعادة المكان للحياة للموقع التاريخي وفتحه للجمهور، فمنذ العام 1992م عندما بدأت اليونسكو في التفكير في المحافظة على الموقع وحتى عام 1997م عندما توفرت المبالغ المطلوبة للترميم (حوالي 250 مليون دولار) أصبح المكان محط أنظار العالم. خلال العقد الأخير يذكر لي زملاء زاروا "آنجكور" في مطلع الألفية وأنها كانت عبارة عن "عشش" ومطارها صغير وبدائي وأنهم تفاجأوا كيف تحولت هذه المدينة بهذه السرعة بعد إحياء الموقع التاريخي فقد أصبحت تملك سلسلة من الفنادق الكبيرة وتطورت فيها الصناعات والحرف اليدوية وتوفرت مصادر دخل للسكان المحليين بسبب تصاعد أعداد السياح. التحول التنموي الذي تحدثه السياحة لا يمكن أن تخطئه العين، لكن في نفس الوقت يجب أن نكون حذرين بما فيه الكفاية من أجل المحافظة على الموقع الثقافي ولا نعرضه لسوء الاستخدام الذي قد يؤدي إلى زواله مع الوقت، فمثلا في قصر الحمراء في غرناطة الدخول مقنن والضوابط صارمة فلا أحد يسمح له بلمس الجدران حتى لا تتدهور الزخارف. هناك قضيتان مهمتان أثارهما المؤتمر حول هذه الإشكالية: الأولى هي "التوثيق" بحيث يتم توثيق المواقع التراثية بشكل متكامل وتحديث هذه الوثائق كلما تطلب الأمر، والقضية الثانية هي "المراقبة"، وهذه القضية على وجه الخصوص مهمة جدا لأنها تحاول أن تجسر الهوة بين السياحة والثقافة، فالمخاوف من تدهور المواقع نتيجة للاستخدام السياحي يمكن أن تعالجه مراقبة هذه المواقع ورصد أي تدهور قد يحدث فيها ومعالجته في الوقت المناسب. الأمر المؤكد هو أن علاقة السياحة بالثقافة في اطراد مستمر، وأن هذا التلازم أصبح جزءاً من الحضارة الإنسانية المعاصرة التي أصبحت بحاجة أكثر من أي يوم مضى للاحتفال بتنوعها واختلافاتها. هذا التوجه المتنامي لإيجاد شراكات جديدة بين الثقافة والسياحة أصبح أحد المتطلبات المهمة للمستقبل، ولعل هذا ما حث منظمة اليونسكو ومنظمة السياحة العالمية لبناء هذه الشراكة الجديدة المهمة التي ستغير من وجه السياحة والمواقع الثقافية في العالم فقد أكد أحد المحاضرين أنها "لحظة تاريخية" التي اجتمع فيها المختصون في السياحة والمختصون في الثقافة على مستوى االعالم وفي مكان واحد. هذا التوجه الذي يجمع بين الاستدامة الثقافية والاقتصادية في بدايته ويحتاج للكثير من العمل والتقارب بين من هو مهتم بالاقتصاد ومن هو مهتم بالثقافة. لمراسلة الكاتب: malnaim@alriyadh.net
مشاركة :