د. عبدالله الغذامي يكتب: السيف الثقافي

  • 3/5/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

اشتهر سيف الفرزدق في المرويات التراثية، وهو في غالب قصصه سيف مجازي ليس له من وظيفة غير كونه مجازاً، فهو يهدد به كل شاعر جديد وفتي حين يطرب لبيت من أبياته فيغار من روعة البيت ولا تكتمل القصة إلا بإشهار السيف ليستولي الفرزدق على البيت الذي أثار إعجابه ويعلن عبر السيف المشهر بأنه أحق بالبيت من هذا الشاعر الغض، وتنتهي القصص المدوّنة عند هذا الحد، وهو حد يتضمن إعلان ميلاد شاعر جديد وإطراء بيت محدد، وفي كل قصة يبقى البيت المثير في ملكية قائله ولا ينتقل إلى الفرزدق ولا يدرج في أي قصيدة من قصائد الفرزدق، ولعل أشهر قصص سيوف الفرزدق هي تهديده لمربع راوية جرير الذي امتهن ترويج قصائد جرير في هجاء الفرزدق، وجاءت شهرة هذه القصة عبر بيت جرير الذي يقول: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يامربع وجرير هنا يتكلم بثقة مطلقة بأن الفرزدق لا يجرؤ على مس مربع هذا، وهي ثقة لا يمكن أن تصدر عن قوة لجرير لحماية روايته ومنع الفرزدق عن إيذائه، ولكن الأمر يعود لثقة تعود للمعنى الشعري ذاته، فجرير نفسه يمثل ضرورة شعرية وجودية للفرزدق بمثل ما أن الفرزدق ضرورة شعرية ووجودية لجرير، ولو غاب أي واحد منهما من المشهد فسيغيب الآخر كحال بطلي مصارعة أو ملاكمة اللذين لن يتميز أحدهما إلا عبر منافسه المساوي له قوةً ومكانةً وتحدياً، ولا تتحقق بطولة المصارع إلا عبر هزيمته لمصارع مثله، وكلما كان الثاني كبيراً كبرت معه المنافسة وستكون الغلبة ذات قيمة حسب قيمة ومنزلة الطرف الثاني، ومن هنا فمربع بوصفه ناقلاً ومروجاً لشعر جرير يظل ضرورياً للفرزدق بما أنه يصنع فرصة لرد شعري من الفرزدق على هجائيات جرير له، ولو غاب مربع فستغيب المنافسة الشعرية الهجائية، وهذه خسارة للفرزدق بمثل ما هي خسارة لجرير، وهذا هو سبب ثقة جرير بسلامة مربع التي وظفها ليسخر من خصمه بهجائية لن يغفل أنها ستجر هجائية مضادة من الفرزدق لكي تظل المبارزة حاميةً ومتقدة، وفي النهاية تحتل هذه المبارزات حيزاً لافتاً في المدونة الشعرية العربية وفي ذاكرتنا الثقافية، وقد حظي هذا البيت تحديداً بانتشار واسع سببه طول لسان الفرزدق الذي تسبب بميلاد بيت تتوج بمنحة الاستشهاد والترديد الذي لم يكن ليحدث لولا مهارات الفرزدق العجيبة في تسليط لسانه على الشعراء كبيرهم وصغيرهم ليسجل لهم حضوراً ذهنياً متصلاً ولذا فشخصية الفرزدق تبرز دوماً بأنها شخصية مثيرة وصانعة للحدث الثقافي . ولولا الفرزدق لضاعت قصص كثيرة كما سيضيع ثلث لغة العرب حسب قول بعض اللغويين الذين يقولون إن شعر الفرزدق حفظ غريب اللغة، وجعل غرائب اللغة حية عبر قصائده وشعره. وسيف الفرزدق سيكون أهم «سيف ثقافي» مر في المدونة العربية.

مشاركة :