الدجل باعتباره نوعاً من الوهم ينتج عن الجهل، فإن قدرته على التمدد والاتساع، دليل صارخ على عجزنا، إذ لا يقف في وجهه وازع ديني، ولا يحول دون انتشاره منطق، أو سلطة تمنع تجّاره من التغلغل في أوساط الناس، فتروج تجارتهم عبر وسائل الاتصال، مما يجعلهم يحكمون سيطرتهم على العقول التي تنقاد طوعاً لهم تحظى الخرافة والدجل بقبول وانتشار واسع في المجتمع، سواء في المحاضرات التي يلقيها بعض الدعاة، أم في القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية، وصارت هذه الممارسات نموذجاً يحتذيه كل من أراد أن يعظ محذراً من سلوك ما، كسماع الأغنيات، أو عدم تغطية الوجه، أو لبس البنطلون أو عباءة الكتف، أو حضور الأعراس في صالات الاحتفالات وما هنالك من القضايا التي يحفل بها خطاب المرأة الوعظي، ونلحظ في قصص الدجل مبالغات تتمثل في أفعال شخوصها التي هي سبب ما يصيبها من مآس وكوارث، أو ما تتصف به من ورع يضفي عليها مسحة من المهابة والنقاء، ليكون مؤشراً من مؤشرات قبولها عند الله. والدجل باعتباره نوعاً من الوهم ينتج عن الجهل، فإن قدرته على التمدد والاتساع، دليل صارخ على عجزنا، إذ لا يقف في وجهه وازع ديني، ولا يحول دون انتشاره منطق، أو سلطة تمنع تجّاره من التغلغل في أوساط الناس، فتروج تجارتهم عبر وسائل الاتصال، مما يجعلهم يحكمون سيطرتهم على العقول التي تنقاد طوعاً لهم، وهنا نلحظ سهولة انتشار مواعظ الدجل ذات المنحى الديني في أوساط الناس، لأن بعض أفراد المجتمع المتدين أكثر من يحمي الخرافة، وذلك لارتباطها بالوعظ وتقويم السلوك، ومن هنا تأتي هيمنتها، وتأثيرها المخدر الذي يسلب المتلقين قدرتهم على إعمال عقولهم فيما يُلقى عليهم، لأنهم يؤمنون بقدرة الخرافة وما يتصل بها من دجل على خرق قوانين الطبيعة، وعدم حاجتها إلى براهين وحجج، إضافة إلى قدرتها على إلهاب المشاعر وإثارة الحماس وحشد الأنصار، والمؤيدين القادرين على نشرها ليتسع مداها. ولا غرابة في ذلك؛ إذ تروج الخرافة وما يتصل بها من دجل وشعوذة لدى الشعوب التي يسيطر عليها الجهل، وتوجد لديها فجوات معرفية كثيرة تحاول ملأها بقصص خرافية، كما تكون لديها تساؤلات كثيرة لا تجد لها تفسيراً، فتلجأ للدجالين، وذلك بسبب ضعف الوازع الديني، والافتقار للعقل الناقد. علاوة على أن بعض الشخصيات لديها استعداد لقبول التفسيرات غير المنطقية وللتأثر بالإيحاءات غير العقلانية التي يمارسها الدجالون، وهذا يسمى النمط الخرافي من الشخصية (Superstitious type of personality) وهذا النمط يوجد في المتعلمين والجهلة على حد سواء، ولكنه يكثر في النساء والأطفال وكبار السن والمرضى النفسيين، والمجتمعات البدائية بشكل عام. وصاحب هذه الشخصية يتميز بالقابلية لتصديق روايات الأشياء الخارقة للعادة، والإشاعات والأكاذيب، كما أنه سريع القبول لإيحاءات الأهل والأصدقاء وتوجيهاتهم، لذا فمن السهل أن يقع ضحية دجال أو مشعوذ. ويدخل في هذا المنحى ما يعرف بالرقية الشرعية، التي صارت مهنة من لا مهنة له، وأصبح لها سوق رائجة تحصد الملايين، كما تحصد الأرواح في ذات الوقت، فكم ضحية لقيت حتفها جراء جهل الرقاة الذين يمارسون الضرب المبرح إلى جانب الصعق الكهربائي! ينتشر الرقاة في معظم الأحياء في المدن كما في القرى، ولديهم قنوات فضائية، ومواقع على شبكة الإنترنت، وحسابات على تويتر وفيس بوك، ناهيكم عن استراحات لاستقبال المرضى حسب مواعيد وأجور للكشف تحددها شهرة الراقي، إلى جانب وصفهم علاجات خاصة كزجاجات ماء مقروء فيه، وعسل وزيوت وأعشاب لا يُعلم ما مصدرها وما مكوناتها! إنها سوق تجارية تعتمد الدجل وتدر أرباحاً بالملايين على أصحابها، ويذهب ضحيتها البسطاء الذين تُستنزف جيوبهم! كل هذا يحدث مع ضعف الرقابة.. ويجد الدجالون في عالم الجن مادة خصبة، إذ ينسجون حولهم كثيراً من القصص المفبركة، فلم يعودوا يكتفون بقصة التلبس التي يخرجون الجان من أجساد المرضى على الهواء مباشرة، في قنوات الشعوذة الفضائية، بل حتى الجان صاروا يستخدمون وسائل التقنية الحديثة، فيراسلون الرقاة، كما يستحضر بعضهم الجان والشياطين الذين يروون قصص الوعظ لترهيب النسوة، ومن أكثر القصص التي راجت عبر وسائل التواصل الاجتماعي في الأيام الماضية، ما رواه أحد أولئك من أن جنياً قام بمراسلته على هاتفه المحمول، ولأنه يدرك أن ما يقوله لا يصدقه عاقل، وأنه سيكون باعثاً للسخرية، فقد ذكر أن من أسباب مس الجن للإنسان هو الاستهزاء والسخرية بهم!! وفور تداول أكذوبته التى انتشرت انتشار النار فى الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي، دشن نشطاء تويتر هاشتاقاً تحت عنوان: "#جني_يراسل_راقي_شرعي_على_جواله" في غاية السخرية والتهكم، بل والتعجب من عدم تدخل أحد، لوضع حدّ لأولئك الذين يتسببون في الإساءة لبلادنا بتصرفاتهم التي لا يقرها عقل.. وقد انتشر الهاشتاق على نطاق واسع فى المملكة وخارجها، ما جعل راقياً آخر يكتب في حسابه على تويتر، قائلاً: "إن المكذبين لتلبس الجن والرقية الشرعية هم بنو ليبرال"! ومن هؤلاء آخرون ليسوا من المشهود لهم بالعلم الديني، جمعوا عدداً من البسطاء وصغار السن في تجمع دعوي أطلقوا عليه اسم: جلسة الملائكة، وقد تم مسبقاً إعداد سيناريو التدليس، حيث يسمع الحاضرون صوت من يزعم أنه جني، يصدر من داخل أحد الرجال في الخلف، ما جعل االحاضرين وصغار السن يلتفتون نحو مصدر الصوت، لكن منظم الجلسة يقول لهم: "ذاك رجل أحضر معه جنياً لمجلسنا هذا، لكن الجني لم يستطع حضور جلسة الملائكة التي أنتم تجلسونها". كما انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي تسجيلاً لراقيين يزعمان فيه أنهما يتحدثان مع الشيطان (لاحظوا أنهما أحضرا الشيطان نفسه، وليس مندوباً عنه). وهنا يبلغ الدجل أقصى مداه، فيضعان له عنواناً: (احذروا يا بنات)، فالشيطان جاء ليحذر البنات من الذهاب للأعراس التي تقام في قاعات وقصور أفراح، لأن الجن - حسب قول الشيطان - (يتسلطون على البنت الكاشفة، والتي تلبس ملابس قصيرة، والبنت الخالعة.. وأن البنات اللاتي يحضرن حفلات الزواج يصبن بالإرهاق والتعب في أيديهن وأرجلهن، وسقوط شعرهن، وتشوّه ملامحهن، لأن الشياطين يدخلون لها من خلال عيون الحساد..)! نلحظ أن الراقيين يلقنان من يزعمان أنه الشيطان ما يريدان تحذير البنات منه، حيث تحمل الأسئلة التي يلقيانها إليه، الكلام الذي يريدان تحذير البنات منه، لكن يُحمد لهما أن الشيطان مؤمن يوصي البنات بقراءة الأذكار والمعوذات وآية الكرسي..!! وما يقوله ذانكما الراقيان على لسان الشيطان المزعوم ليس بمستغرب في مجتمع اعتاد على تخصيص خطاب الدجل بالمرأة، حيث يروج منذ زمن تنفير من ذهاب النساء لحفلات الأعراس والمناسبات التي تقام في قصور الاحتفالات، كما يجري التحذير من الملابس العصرية التي ترتديها الفتيات في مجالس نسائية لا يدخلها أي طفل يزيد عمره على ثماني سنوات.. ويتصل بما سبق سؤالان وجههما أحد الصحفيين لراقٍ أولهما: ما سبب كثرة هذه الأمراض في النساء دون الرجال؟ فأجاب: "لعله والله أعلم أن في مجالس النساء يكثر الهرج والمرج، ويتخلل بعضهن بعض الشوائب من قلة التحصين والاهتمام به، وقلة المحافظة على الدين والحرص على التعلم، والحسد بينهن، والتفاخر بالزوج ومكانته، وكثرة الخروج، والمبالغة في التزين والرقص في الأفراح والمناسبات والحفلات، واللبس العاري، كل ذلك يؤدي إلى استعشاقهن الجان"! وثانيهما: وإلام تعيدون السبب في عشق الجان للنساء تحديداً؟ الجواب: "يعود ذلك لأمور منها: وجودها في خلوة دون الزوج لفترات طويلة في المنزل، واستماعها حال الخلوة إلى الغناء والرقص والتمثيل، دون قراءة القرآن والاستماع إليه، والمحافظة على الأذكار، والصبر على الطاعات والعبادات". وهنا نتساءل ألا يفعل بعض الرجال شيئاً مما قصره الراقي على النسوة، أولا يتزين بعض الرجال ويرقصون ويغنون ويمثلون، ولا يقرؤون القرآن، ولا يحصنون أنفسهم، ولا يتلون الأذكار؟ وفي حومة التأكيد على تلبس الجان، لم يتوانَ أحدهم عن توظيف آية قرآنية في غير سياقها الصحيح، لتكريس مفاهيم الدجل في عقول البسطاء، ومن هذا ما كتبه في تويتر - أنقله كما هو -: "غالب من يشتكي المس، العاشق يكون معه مشاكل.. مثل البواسير والناسور ونحوه، قال تعالى: (وقدت قميصه من دبر)"! فما علاقة الآية الكريمة بالهراء الذي يقوله؟ ثم كلنا نعرف دلالة الآية والسياق الذي جاءت فيه، لتأكيد أن زوجة العزيز هي التي راودته عن نفسه، وليس هو بدلالة أنه عندما هرب منها لحقت به وأمسكت بقميصه من الخلف! فكيف يتجرأ هذا وأمثاله على كلام الله، ويوظفه توظيفاً يخدم فكرته السيئة؟ وهنا لا نملك إلا أن نقول: من أمن العقوبة أساء الأدب، ولو كان أولئك منتمين لتيار آخر لكان للمحتسبين شأن آخر معهم، كاحتسابهم على كلمة أو عبارة ترد في نص أدبي لا تخلو من صور التشبيه والاستعارة، ولا تمس كلام الله!
مشاركة :