الفيديو الذي انتشر منذ أيام وتبادلته وسائل التواصل الاجتماعي عن حارس المدرسة الذي يبدي اهتمامه بالطالبات الصغيرات في إحدى مدارس الرياض.. ويقوم بإيقاف السيارات لتعبر الطالبات الشارع بأمان.. ومساعدة الصغيرات بحمل حقائبهن أثناء الخروج.. وتأمين الطريق والمساعدة على تجنب أخطار السير.. يضاف إلى ذلك أنّ الحارس وهذه نقطة مهمة لم يتنبه إليها أحد.. كان سعيداً وهو يقوم بعمله.. وأركز على عمله.. ومبتسماً.. يتحرك بعفوية أب حنون لصغيرات لم يتجاوزن العاشرة.. أقصد كان مستمتعاً بعمله وهو يمارسه وحريصاً على أمان المنشأة الحكومية ومن بداخلها من أفراد في أن يدخلوا ويغادروا وهم بأمان..! تبادل الناس الفيديو وكأنه اختراع الساعة وأهم الأحداث.. وسُجّل ماقام به الحارس مع احترامي الكامل له أنه يقوم بعمل خارق للعادة ومتجاوزاً به مهام عمله.. التي تستند إليها لائحة عمل حراس المدارس وكيف ينبغي أن يحموا من بداخل المدرسة ويؤمنوا خروجهم منها.. قد تكون هذه الصورة في زمن لم تعد حياتنا فيه سوى صور.. نأخذها تعمداً وصور نسرقها من آخرين دون علمهم.. والبعض صور متفق عليها.. بمعنى شوفوني.. ولا أقصد حارس المدرسة المجتهد والمحب لعمله.. والمؤدي له بصورة رائعة.. ولكن تهويل وتصوير ماقام به الحارس يحتاج إلى إعادة نظر وتوقف.. ومراجعة فعلية لمفهوم العمل.. وماهية العطاء فيه.. وقيمة هذا العطاء.. والتفاعل معه كمتعة وليس كواجب يأخذ عليه مقابل..! ومع هوجة الناس والمتابعين الذين أصبحوا يُذهلون ويستغربون من صور عادية.. توقفت أمام ماقاله وزير التربية والتعليم «حارس المدرسة الذي شد أنظارنا برعايته الأبوية.. أكد أن التعليم تميز وسيتم تكريمه بحفل جائزة التميز «ماذا يعني الوزير بتميز التعليم من هذا المشهد؟ وهل تأمين حارس المدرسة لسلامة الطالبات يعكس تميز التعليم والعملية التعليمية برمتها.. وهي عملية معقدة تعتمد في الأساس على المعلم والطالب والمنهج.. والبيئة التعليمية.. ولا أعتقد أنّ هناك أي ربط بين عملية التعليم المعقدة.. والتي تُشكل لها الدول ميزانيات ضخمة وخططاً طويلة المدى لتعرف بعد سنوات نوعية مخرجات هذه الجهود.. وهل توفقت بها أم لا.. وبين ماقام به الحارس.. من فعل اجتهادي وعفوي وأبوي.. وحب وإخلاص لعمله..؟ الواقع أنّ الصورة تضخمت وأخذت أكبر مما تستحق وهي تعكس التغير لمفهوم ماينبغي أن تقوم به.. سواء كموظف أو كطالب أو كرب أسرة أو أم أو أي مهنة سواء كانت إنسانية أو بأجر لها واجباتها.. وتُؤدى على هذا الأساس بهدوء وصمت ومعرفة لما تقوم به.. سواء أتقنتها أم لم تتقنها ولكن في المحصلة ستقوم بها.. بالطريقة التي ينبغي أن تفعلها.. ولكن تغيرت الصورة وأصبح الموظف يؤدي ولا يجيد ويعتقد أنه فقط يحضر ليأخذ أجراً دون أن يعمل أو ينفذ ماهو مطلوب منه.. ولذلك أصبح من يؤدي عمله والمطلوب منه.. يعكس الصورة الغريبة وغير المعتادة.. ويتناول الناس هذا الأداء بانبهار واستغراب.. وكأنه اكتشاف أو اختراع.. هل أصبح الاعتياد أو لنقل التميز في أداء العمل هو الذي يشغل كل الحواس ويفتح منابر الأسئلة؟ ولماذا نعتبر ما ينبغي هو كسر للمعتاد وتجاوز للمطلوب؟ من المؤكد أننا نحتاج إلى إعادة نظر للمعايير التي نحكم بها على الأشياء وعلى الصور وعلى كل ماحولنا.. هذه المعايير ينبغي أن تكون محكومة بالموضوعية وبالوعي وبالثقافة وهذه لا تتأتى من الوعي المشاع أو الثقافة الشعوبية التي يتحكم في نشرها العوام ويصدرونها على أنها الصورة الفعلية للمشهد.. ويغلقون كل المنافذ التي تؤدي إلى استقلالية تفكير الآخر وعدم السيطرة عليه بالصورة أو الحدث العادي وتحويله إلى فكر مفروض.. ووعي اعتقادي يغوص داخله المتلقي بالقوة والتكرار دون أن يفكر أنّ هذه الصورة تقليدية واعتيادية ولا تستحق هذه السطوة المفتعلة.. ولعل الأهم في الأمر هذه المساندة وهذه التعبئة التي تطلق لها الصورة العنان لتوسد المشهد بمبدأ الغلبة لها على حساب التفكير العقلاني والواعي الذي يتجرد من التأثير السطحي ويتماهى مع الحقيقة..! لست هنا في محاكمة للفيديو ولكن لكل الإسقاطات التي ترتبط بالصور والمشاهد التي تنهال كالمطر وكثير منها بل أغلبها تمثيلي ومتفق عليه ومع ذلك يسيطر ويغزو بسبب ضيق المسافة بين مفهوم أن تُدير نفسك وأن يديرك الآخر بمالديه بطريقته ووعيه.. ويبني لك عالماً بطريقة الكلمات المتقاطعة.. التي لا ينبغي أن تفكر فيها لأنها مرفقة مع المربعات.. ولذلك لا يتحرك الوعي الفردي لأنه يخضع لهجمة شرسة من الوعي الجمعي المرتبط بالصورة والتأثر والذي يولي الأولوية لحق الجماعة في أن تفرض ما تريد دون أن يفكر أن المفتاح بيده هو أقصد مفتاح كل منّا بيدنا..! لا أعرف لماذا تنساق الجموع خلف الصورة ويتحولون معها إلى امتداد لها رغم قدرتهم على الخلاص منها..؟ وأخشى ما أخشاه أن يتحول المعتاد في حياتنا إلى أضواء هشة تحجب ذلك الأهم وهو البحث عن الضوء الحقيقي والسعي نحوه من خلال عدم الانسياق أو خلط الملامح.. أو تكريس وجاهة العادي لتصدر المشهد.. أو أن نتحول إلى تلك المسارات التي نستمد فيها هويتنا من الآخر الذي لا يعرف هويته ولكنه باقتدار يسوّق لهوية لا تبني على واقع البشر.. بل على واقع يصور سريالياً ومكتوباً بتخيل..!!
مشاركة :