د. عبدالله الغذامي يكتب: الشفقة بوصفها قيمة تستحق أن نعيش من أجلها

  • 4/16/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

كان راسل قد أشار للشفقة بوصفها إحدى أسباب رضاه بالحياة على الأرض، وأن الشفقة ترتفع به إلى السماء لتتجاوز حدود المعاش الأرضي، وهذه فكرة عظيمة ونبيلة وتمنح الحياة معنى عميقاً يجعل العيش ذا جدوى معنوية وأخلاقية، وإذا ما تحولت الشفقة لقيمة أخلاقية فإنها تخفف كل تعب تمر به النفس البشرية جراء مشاهدة مآسي الآخرين. وقيمة الشفقة تأتي من كونها شعوراً بغيرك وتماهياً مع أوجاعهم، ولكن بين يدي قصة موجعة تمتحن معنى الشفقة في مجتمع ينتمي له برتراند راسل، وتلك قصة عن عجوز إنجليزية ماتت في شقتها في مدينة مانشستر، وظلت في ميتتها المعزولة والمنعزلة حتى مر عليها عشر سنوات لم يشعر أحد من جيرانها في العمارة بموتها، بل لم يشعر مزودو الخدمات لشقتها بانقطاعها عن تسديد الفواتير، ولها ابن وحيد يعيش في المدينة نفسها، لكنه منقطع عنها، وقد روى الابن للإعلام أنه يرسل لها رسائل معايدة سنوية برأس السنة وفي أعياد الكريسميس، ولكنه لم يك يتلقى ردوداً منها ولم يلفت نظره عدم ردها عليه، وجرى كشف جثتها فقط حين قامت إدارة العمارة بمسح شامل للمبنى بسبب تسرب مياه احتاجوا لتتبع أثره وحين ظلوا يطرقون باب شقة العجوز ولم يجدوا رداً اضطروا لفتح الباب ليعثروا على جثة متيبسة مرت عليها عشر سنوات، وقد ضجت صحف بريطانيا حول الحدث وأهم سؤال عندهم كان عن إدارة البريد وشركات الخدمات وكيف لم يلاحظوا تكوم البريد على باب الشقة من داخله وكيف لم تتتبع الشركات فواتيرها، والغائب الأكبر هنا هو الشفقة التي لم تظهر كتعبير عن مأساة سيدة عجوز عاشت وحيدة وماتت وحيدة وجرت تغطية خبر موتها من دون أي شعور اجتماعي عام على مأساة إنسانية وعلى بيئة متجمدة الشعور بين جيرة لا يعرف أحد منهم خبر الآخر وابن لم يستنكر غياب أجوبة أمه على رسائله لها. هل تصل الواقعية المادية حد التسليم بأن تلك المأساة مجرد خبر في جريدة، وهل الشفقة قيمةٌ جغرافية مرتبطة عضوياً مع الحال الثقافية لجغرافيا معينة وتختلف عن جغرافية أخرى لها نظام أخلاقي مختلف، وهل شفقة برتراند راسل خارج جغرافيته الواقعية أو كما وصفها بالأمر السماوي غير الأرضي، مما جعله يراها طاحنة وتعصف بالنفس، ويراها غير أرضية، ولأنها غير أرضية، فهي ليست بريطانية كما تشهد حادثة العجوز، لعل هذا هو ما جعل راسل يصف شفقته بصفات عليا تستحق أن يعاش من أجلها، وكأن إشادته بقيمة الشفقة هي حالة انتقاد ضد تيبس المشاعر البشرية بحيث تكون الشفقة فيها من النوادر التي سيصفها راسل بأنها سماوية وليست أرضية.

مشاركة :