زاد قرار روسيا بوقف إمدادات الغاز لكل من بولندا وبلغاريا من دوي أصوات الإنذارات في القارة الأوروبية. القرار رفع من زخم ارتباك المشهد العام حيال الطاقة ومستقبلها في هذه المنطقة التي تعيش حرباً هي الأخطر على الإطلاق منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. الأوروبيون يبحثون عن بدائل للطاقة الآتية لهم من روسيا، لكن البدائل ليست جاهزة، ناهيك عن تكاليفها المرتفعة. هذه الحالة أظهرت بالفعل أن «عطش» الطاقة في الاتحاد الأوروبي تحديداً، لا يزال خارج السيطرة، وأن الكتلة بناتجها المحلي الإجمالي الذي يفوق 18 تريليون دولار، لا تتمتع في الواقع بأمن في ميدان الطاقة. الأمر الذي يطرح أسئلة متعددة حول ماهية الاستراتيجية التي تعتمدها، إن وجدت أصلاً. فالاتحاد يستورد 40% من احتياجاته من الطاقة من الجار الروسي، الذي يعتقد بأن الغرب يستهدفه عبر أوكرانيا. وبعيداً عن الجدال بين الطرفين حول «النوايا المبيتة»، نجحت موسكو على الأقل في الوقت الراهن، في تكريس توجهها نحو حتمية أن تدفع الدول الأوروبية المستوردة للغاز والنفط منها بالروبل الروسي، وإلا سيتوقف الضخ بالكامل، كما حدث في الحالتين البولندية والبلغارية. ماذا حدث؟ أقدمت أربع شركات على التسديد بهذه العملة، وأعلنت عشر شركات أخرى عن فتح حسابات بالروبل، ضاربة عرض الحائط بكل التحذيرات الآتية من المفوضية الأوروبية، بأن هذه الخطوة تعد خرقاً للعقوبات التي فرضت على روسيا. لكن الحاجة للطاقة تضرب كل القواعد، إلى درجة أن البلدان الأوروبية بدأت تتجه إلى استخدام الفحم وزيوت الوقود، متجاوزة التزاماتها البيئية والمناخية المعلنة. فحتى مادة الفحم زادت قيمتها 80% منذ نشوب الحرب في أوكرانيا. مشهد الطاقة في الاتحاد الأوروبي يزداد تعقيداً، ناهيك عن الضغوط الآتية من ارتفاع أسعار النفط والغاز إلى مستويات تاريخية. فقد ارتفعت على صعيد الغاز سبع مرات العام الماضي، ويتوقع البنك الدولي أن ترتفع ضعفين قبل نهاية العام الجاري، ما زاد من الضغوط التضخمية في الدول الأوروبية كلها دون استثناء. في حين يبقى سعر برميل النفط فوق حاجز الـ 100 دولار، ومن المتوقع أن يظل في هذا النطاق طالما بقيت الأزمة في القارة العجوز متصاعدة بضغوطها ومخاطرها. وثبت بالفعل، أن إمدادات الطاقة الأمريكية لأوروبا كانت «ترقيعية» أكثر منها مستدامة، ما يدفع الأوروبيين إلى ضرورة البحث عن حلول سريعة وناجعة، وإن كانت مكلفة. فبلد كألمانيا يتصدر قائمة أكبر الاقتصادات الأوروبية، لا يمكنه تحمل هزة قوية طويلة الأمد على صعيد الطاقة، في حين يبقى هذا البلد جزءاً أصيلاً في المنظومة الغربية التي لا يمكن أن يتجاوز قيودها أو معاييرها. حققت موسكو نقطة قوية لصالحها في هذا الصراع. فقد تمكنت من إعادة قيمة الروبل إلى ما قبل الحرب، سواء عبر قرارها بالدفع بهذه العملة، وأيضاً من خلال إجراءاتها المقيدة للسحب وشراء العملات الصعبة. لكن السؤال الأهم يبقى دائماً، هل يستطيع الاتحاد الأوروبي بدوله الـ 27 طرح استراتيجية إنقاذ سريعة في ميدان الطاقة؟
مشاركة :