من أهم ملامح المرحلة الراهنة على الساحة الاقتصادية العالمية، هي تلك الخاصة بالتخفيض تلو الآخر لتوقعات النمو. فمسببات الخفض واضحة، تتمحور بين تضخم يقضم العوائد التي حققها النمو في العام الماضي، إلى جانب (طبعاً) ما تبقى من تداعيات جلبتها جائحة «كورونا» إلى المشهد العام، ومضاعفات الحرب الراهنة في أوكرانيا. هذه الأخيرة، عمقت في الواقع مشاكل كانت موجودة قبلها، ولاسيما تلك التي تسود ميدان سلاسل التوريد، بما في ذلك ارتفاع أسعار الطاقة بأنواعها. ولذلك، ليس غريباً أن يتم تخفيض توقعات النمو بنسبة 1.2% من قبل البنك الدولي إلى 2.9% في السنة الجارية، بينما بلغ النمو في العام الماضي 5.7%، في زيادة تلت عاماً كاملاً من الانكماش أوجدته «كورونا». النمو الذي تحقق في 2021، سيتراجع هذا العام إلى أكثر من النصف، في الوقت الذي لا تتوافر فيه أمام الحكومات وسائل ناجعة لتعزيز النمو، حتى وإن اتخذت إجراءات قوية في هذا المجال. فهي مضطرة لمواصلة رفع الفائدة تدريجياً، لكبح جماح التضخم، الذي بلغ مستوى تاريخياً في البلدان المتقدمة، إلى درجة اضطرار شريحة واسعة من البريطانيين (بحسب أرقام مراكز البحوث الوطنية) التخلي عن وجبة غذاء يومياً، والأمر ليس أفضل في بقية منظومة هذه البلدان. والمشكلة الأعمق هنا، أن توقعات النمو ستكون في حدود منخفضة أكثر في العامين المقبلين. أي أن هذا المستوى من النمو سيستمر حتى منتصف العقد الحالي على الأقل. هذا الوضع يرفع من قوة المخاطر بأن يشهد الاقتصاد العالمي ركوداً تضخمياً، نتيجة نمو اقتصادي ضعيف وبطالة عالية، أو بمعنى آخر ركود اقتصادي يرافقه تضخم مرتفع عدة أضعاف عن الحد الأعلى له الذي تضعه الحكومات حول العالم، وهو عادة يدور حول 2%. فهذا التضخم يقترب الآن من 10% المائة في أوروبا والولايات المتحدة، وهو يزيد أيضاً في الدول الناشئة، التي تعاني أصلاً من ضغوط لا تنتهي بفعل ارتفاع معدلات الدين لديها سواء الخاص بالأفراد أو بالحكومات. إلا أن هذه الدول ستتمتع بنمو اقتصادي أعلى من تلك المتقدمة، عند حدود 3.4% لهذا العام، مقابل 2.6% على الساحة الغربية بشكل عام. وهو أمر مفهوم. فعادة ما يكون الفارق حاضراً بين الطرفين بصرف النظر عن حالة الاقتصاد العالمي. الخوف الآن يتمحور حول حدوث ركود عالمي أطول من ذاك الذي وقع في العام 2020 (سنة الجائحة)، تماماً كما حدث في بدايات عقد الثمانيات من القرن الماضي، بفعل الارتفاع الهائل لأسعار الفائدة بهدف السيطرة على التضخم آنذاك. وقتها ضرب الركود كل الاقتصادات دون استثناء، على الرغم من أنه لم تكن هناك مؤثرات «وبائية»، ولا حروب خطيرة، ولا اضطرابات متفاقمة في سلاسل التوريد. والمشكلة أن الآلية الوحيدة المتوافرة في أيدي المشرعين حالياً ليست سوى الفائدة، للحد من التضخم، ما يعني أن النمو العالمي سيبقى مهدداً لعدة سنوات مقبلة، ما يسهل المسار أمام وصول الركود الذي يخشى منه العالم أجمع.
مشاركة :