حتى حياة المترجم الكاتب الروائي البرتو مانغويل تشبه الكتاب المؤلف من أكثر من فصل، فهو أرجنتيني الأصل، ولكنه يحمل الجنسية الكندية، ويحب حياته في إحدى القرى الفرنسية، والأهم من ذلك كله أن كتابه يوميات القراءة هو صورة مصغرة عن حياته بين الكتب. رجل شغوف بالكتابة والقراءة معاً. رجل الليل والكتب هذا قرر وهو في الثالثة والخمسين من عمره أن يعيد قراءة بعض كتبه القديمة المفضلة، ويقول.. .. بدا لي حينئذ أنني إذا ما أعدت قراءة كتاب كل شهر، فقد يمكنني أن أكمل خلال عام شيئاً ما يقع بين اليوميات الشخصية وبين كتاب عادي: مصنفاً من الملاحظات والتأملات وانطباعات السفر... وهذا ما حدث بالفعل، فخلال عام أعاد مانغويل قراءة 12 كتاباً وعصرها مع تأملاته ويومياته في كتابه المبهج يوميات القراءة. قرأ مانغويل خلال عام الكتب التالية: اختراع موريل، جزيرة الدكتور مورو، كيم، مذكرات من وراء القبر، علامة الأربعة، تجاذبات انتقائية، الريح في الصفصاف، دون كيخوته، صحراء التتار، كتاب الوسادة، الصعود إلى السطح، مذكرات ما بعد الموت لباراس كوباس. المهم أن مانغويل صنع كتاباً من اثني عشر كتاباً، وهو مرة ثانية لا يعرض لهذه الكتب بالمعنى الميكانيكي الصحفي، ولا ينشغل بالتعريف بها بالمعنى السطحي أيضاً، بل، يكتب يوميات كتب، أو يوميات قراءة. يقول إن القراءة حوار، ويقول في مكان آخر.. .. القراءة عمل مريح، فردي، مهل، وحسي، وتشارك الكتابة القراءة بعض هذه الصفات... يشير مانغويل إلى القارئ الانتقائي، وأسميه هنا القارئ اللاعشوائي، وهذا إذا لم يجد ما يملأ قلبه ودماغه وروحه من الكتب، فهو يعيد قراءة كتب قديمة كان قد قرأها في الماضي. القارئ اللاعشوائي قارئ ممنهج، وله درب قراءة أو خريطة قراءة، وقد تجد في كينونتك الثقافية ميلاً إلى مثل هذا القارئ، إنه انتقائي لأكثر من سبب: فالكتب كثيرة، والقارئ الأطول عمراً لا يستطيع أن يقرأ كل الكتب. والانتقائية فن وذوق وذكاء، وتؤشر أيضاً على ثقافة القارئ، وميوله، بل ومرجعياته الفكرية والتربوية وحتى الأخلاقية. أميل إلى القارئ الانتقائي أكثر من الميل إلى ما يسمى القارئ الموسوعي، ومثل هذا القارئ هو مشروع باحث أو أنه باحث، غير أن القارئ الانتقائي، أخاله، قارئاً جمالياً بالدرجة الأولى يعرف كما يقال من أين تؤكل الكتف، وبالطبع، كتف الكتاب. هل تؤكل الكتب؟ على طريقة البرتو مانغويل لا تؤكل.. بل تتذوق على مهل، تحس، وتلمس، وتشم، وتوضع على الرأس، ومن الجميل أيضاً أنها تشعل ذلك الشعور الرائع الذي اسمه: الحنين. إعادة قراءة كتاب يعني الحنين إليه. والحنين في مثل هذه الحالة ما هو سوى يوميات مستعادة بتركيز، وعلى مهل، وبذوق رفيع. يوسف أبولوز
مشاركة :