إن قصة الحمض النووي الريبي المتداخل تعطينا دروسا مهمة عن "سيادة علوم الحياة". أولا، النجاح يحتاج إلى ما هو أكثر من الامتياز العلمي والدعم الشعبي. إن بوسطن الكبرى اليوم هي مركز على طراز عالمي للتكنولوجيا الحيوية حيث تضم أكثر من ألف شركة مختصة بالتكنولوجيا الحيوية لكن بناء ذلك القطاع استغرق 50 عاما، وذلك منذ تأسيس شركة بايوجين عام 1970. يعود الفضل لنمو قطاع التكنولوجيا الحيوية في بوسطن، إلى عدة عوامل متداخلة. من المؤكد أن وجود خبرة طبية حيوية على مستوى عالمي داخل جامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا كان من العوامل المساعدة، لكن توافر المهارات متعددة التخصصات مثل الهندسة وإدارة الأعمال والتمويل والحوسبة وعلوم البيانات كان أمرا ضروريا أيضا، إضافة إلى قرب هذا القطاع الواعد من بعض أكبر مستشفيات الأبحاث في العالم. لقد كان الجمع بين القطاعات العلمية والطبية أمرا بالغ الأهمية للتطور السريري، وأخيرا، قدم أوائل الرأسماليين والمستثمرين في بوسطن ونيويورك التمويل اللازم. إن الدرس الثاني يتعلق بالسيادة وهو مفهوم يمكن أن ينطوي على المشكلات لأنه يوحي بتوجه على المستوى الوطني فقط لكن في واقع الأمر حتى ينجح أي قطاع قائم على علوم الحياة، يجب عليه أن يكون ذا توجه عالمي ومفتوح وذلك حتى يستفيد من المعرفة والمهارة العلمية ورأس المال من جميع أرجاء العالم، ولهذا السبب نجد عديدا من أكبر شركات الأدوية الأوروبية واليابانية "سانوفي، نوفارتيس، تاكيدا، ابسين" تستثمر في منشآت موجودة في بوسطن. لمساعدة الشركات المحلية على النمو دوليا، تحتاج الحكومات إلى التحقق من أن سياساتها مواتية لجذب رأس المال البشري والمالي من الخارج. يبدو أن المملكة المتحدة تدرك ذلك، فمن خلال قاعدة البيانات ومورد الأبحاث الطبية الحيوية واسعة النطاق لديها "البنك الحيوي"، فهي تستفيد من بيانات جهاز الخدمة الصحية الوطنية لبناء شراكات مع الشركات والباحثين على مستوى العالم، ما يؤدي في نهاية المطاف الى تطوير أدوية جديدة. ثالثا، يتطلب الابتكار الطبي تمويلا ضخما من القطاعين العام والخاص، وهنا لا تزال أوروبا متأخرة مقارنة بالولايات المتحدة. ستكون هناك حاجة إلى تمويل أكثر بكثير حتى تتمكن أوروبا من اللحاق بالركب، وربما الأهم من ذلك حتى لا تتفوق عليها الصين في سباق التكنولوجيا الحيوية العالمي. أخيرا، لضمان الاستدامة المالية والدورة المستمرة للاستثمار، يجب مواءمة حوافز السوق والسياسات لمكافأة الابتكار، وهنا أيضا أوروبا متأخرة جدا عن الولايات المتحدة. نظرا لأن السوق الأوروبية مجزأة بشكل كبير، فإن الوصول إلى الابتكارات يستغرق وقتا أطول بكثير، ما يؤدي إلى انخفاض عوائد الاستثمار. إن فرص النمو المحدودة والمخاطر التجارية المرتبطة بالوصول غير الملائم للسوق تعني أن هناك عديدا من العوامل المثبطة للاستثمار في القدرات البحثية والتجارب السريرية. إن سوقا أوروبية موحدة بشكل أكبر تتم فيها تقييم الابتكارات الجديدة في الوقت المناسب وبطريقة موثوقة يمكن أن تصلح هذه المشكلات وتوجد الظروف الملائمة للاستثمار والنمو، لكن سيتطلب ذلك تغييرا في طريقة التفكير. يحتاج صانعو القرار إلى البدء بالنظر إلى ابتكارات علوم الحياة، كاستثمار استراتيجي وليس كتكلفة للرعاية الصحية. يحتاج صناع القرار أيضا إلى تحسين الوصول إلى الابتكارات الجديدة، كما فعل جهاز الخدمة الصحية الوطنية البريطاني، من خلال مبادرة إدارة صحة السكان، وذلك باستخدام التاريخ الطبي للمرضى لتوفير الوصول المبكر والواسع لعلاجات جديدة. يوجد عديد من الحلول المبتكرة الأخرى، لكن دعمها حتى تصل إلى مرحلة الاعتماد والاستخدام سيتطلب مزيدا من الحوار وميثاقا اجتماعيا جديدا بين قطاع التكنولوجيا الحيوية وصناع السياسات وعامة الناس. خاص بـ «الاقتصادية» بروجيكت سنديكت، 2022.
مشاركة :