د. شريف عرفة يكتب: عقل غير عقلاني

  • 7/23/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يحلو للبشر الاعتقاد بأنهم كائنات عقلانية لا تتصرف إلا بالمنطق والدليل الموضوعي. إلا أن أجزاء كثيرة من عقولنا لا زالت - بدافع توفير الطاقة - تلجأ لآليات بدائية تلقائية، تقفز لاستنتاجات وتثير فينا استجابات أبعد ما تكون عن العقلانية. وليس أدل على ذلك من التحيزات الإدراكية والمغالطات المنطقية، التي تكشف أمامنا هفوات العقل وفجواته التي يمر من خلالها الكثير من اللا منطق دون أن نلاحظ. دعني أضرب لك مثلاً بسيطاً جداً، هو تأثير الهالة.. هناك أشياء تعطينا الإيحاء بالثقة أكثر من غيرها.. فالمرشح الأنيق الواثق الذي يتحدث أمام الجماهير ببلاغة تثير الحماس، يعطيه الناخبون أصواتهم رغم أن مهارات الحديث على الملأ لا علاقة لها بالكفاءة في مهام المنصب.. الشخص الذي «يبدو» وسيماً أنيقاً، يوحي - لعقولنا اللا واعية - بأنه على ذات القدر من الكفاءة أيضاً. لنفس السبب ينجذب الرجل للمرأة الجميلة لإحساسه أنها جميلة الشخصية كذلك.. رغم أن هذا لا يكون صحيحاً، في عدد من الحالات.. بل في كثير منها لو أردت رأيي! هناك ظاهرة قريبة مما نتحدث عنه هي العلاج بالإيهام «بلاسيبو» التي لا زالت تحير الباحثين.. ففي التجارب العلمية يتناول أحد المرضى كبسولات فارغة يعتقد أن فيها الشفاء، فتختفي الأعراض! لماذا؟ لأن شكل الكبسولة يعطي إيحاء بالشفاء! العلاج بالطاقة وتأثير الأحجار وما إلى ذلك من أمور لا أساس علمي لها، تعتمد على إيمان الشخص بأن هذا «المعالج» يعرف ما ينبغي عمله.. ويتعمد الدجالون الظهور بشكل مهيب مرددين طلاسم وكلام غامض، راسمين جداول وأرقام ورموز عديمة القيمة إلا إبهار المستمع وإعطائه الإيحاء المطلوب. والألق الذي تتسم به حضارات القدماء تجعل الناس يقتنعون بأي شيء قادم من هذا الزمن، حتى وإن كان الطب القديم المندثر، الذي كان يعتقد أن كل الأمراض سببها اضطراب الأخلاط في الجسم، الماء والتراب والهواء والنار هذه تطبيقات سلبية بالطبع، إلا أن هناك نماذج أخرى تستخدم ذات الظاهرة لأسباب إيجابية.. مثل الإيحاء الذي يعطيه البالطو الأبيض حين يرتديه الطبيب الذي يكشف عليك، حتى إن لم يكن يحتاج إليه عملياً. ففي الأصل هو رداء يحمي الملابس من الاتساخ أو العدوى.. لكن أصبح اليوم «يونيفورم» يعلم سمت الطب وسلطته العلمية، كي يطمئن المريض! بسبب هذا التأثير يدعي المصابون «بمتلازمة منخاوزن» المرض، كي يتم احتجازهم فيشعروا بالأمان في أجواء المستشفى ورائحة المطهرات! نفس التأثير تجده عند شركات الأدوية التي تحرص على تسمية الدواء بأسماء معقدة مشتقة من مصطلحات طبية لاتينية.. لن تثق في دواء تجده في الصيدلية اسمه التجاري هو «لا - مغص»، هكذا ببساطة وباللغة العربية! لكن نفس الاسم يكتب باللغة اللاتينية اللي لا يتحدث بها أحد، فأصبح يوحي بالحكمة.. لا بد من الإحساس بأن الأمر له طابع علمي نابع من جنبات المعامل وأنابيب الاختبار، كي يطمئن المدركون لقيمة العلم.. بينما هناك من يؤمنون بأشياء أخرى! خلاصة القول.. نحن قابلون للإيحاء وعقولنا تقفز لاستنتاجات وتثق وتتشكك لأسباب وجدانية لا علاقة لها بالمنطق.. إلا أن هذا لا يعني أن نتوقف يوماً عن تنمية الجانب العقلاني بالثقافة والمعرفة، كي نستطيع الانتباه لهفوات عقولنا، كما فعلنا في هذا المقال!

مشاركة :