من أهم المهارات الذهنية التي تدل على النضج النفسي، إدراك نسبية المعرفة.. بدءاً من اكتشاف الطفل أن رؤيته لشيء لا يعني أن جميع الناس يرونه من نفس الزاوية، وصولاً لإدراك الشخص البالغ أن وجهة نظره قد لا تكون صالحة لكل البشر بالضرورة! يغرنا الإحساس بأننا كيان متصل منذ الطفولة إلى النضج رغم أننا لسنا كذلك! نعتقد أننا «نحن» على مدار السنوات من دون أن يعتري ذواتنا تغيير، بينما هو مجرد شعور مضلل.. فنضجنا لا يقتصر على الشكل والمظهر بل يشمل أعماق ذواتنا وتكوين آلياتنا الذهنية التي تصيغ فهمنا لأنفسنا والعالم .. ما كنت تعتقد أنه بدهيات في يوم من الأيام لم يعد كذلك حين نضج عقلك وتغيرت المعطيات المتاحة. على سبيل المثال، قد يظن الطفل أن أباه أقوى رجل في العالم، معتبراً هذا ركيزة استقراره وشعوره بالطمأنينة، لكن مع مرور الوقت تظهر بالتدريج أدلة عكس هذا الاعتقاد الطفولي.. فماذا يفعل؟ من النضج تجاوز الاعتقاد المريح وتطوير أفكار أخرى نستمد منها استقرارنا النفسي.. سيقاوم تغيير معتقداته عن والده، وسيتألم في رحلته الفكرية أن يجد صيغة يحافظ فيها على احترامه وتوقيره لوالده، لكن بعد التخلص من المعتقدات الخيالية عنه.. ألمها يشبه ألم عضلة بعد تدريب رياضي شاق، لكنه ضروري لتقوية العضلة.. وهي رحلة شاقة مضنية نجتازها جميعاً بدرجات متفاوتة قدر استطاعة كل شخص علي تحمل هذا الألم.. فنحن نتطور.. نتغير.. نجدد ما كنا نظنه ثوابتنا، وما هو إلا ما كان متاحاً في عقولنا وقتها.. ثوابت شخص جاهل تختلف عن شخص متعلم، وكلنا نعيش لنتعلم! عصفت بمنطقتنا - وبالعالم - أحداث كثيرة تستدعي تغيير نماذجنا الذهنية التي كنا نفهم بها الحياة... ووفرت معطيات جديدة توسع من فهمنا إدراكنا لطبائع الأمور.. كثرت الأدلة والبراهين والحجج المضادة والأفكار التي لم تكن متاحة من قبل.. وسط هذا الشلال الهادر من الكنوز المعرفية، أتعجب ممن يعيش وكأن شيئاً لم يكن.. قابع في كهفه، صام أذنيه، معتبراً والده أقوى رجل في العالم، وهو يسن رمحه للانتقام ممن يخالفونه الرأي!
مشاركة :