الكتابة في الزمن الصعب، والمكان الوعر، والكتابة عن الزمان والمكان في الظروف الممكنة، أوالممتنعة. إشكالية نفسية تؤرّق المبدع الحرّ، الملتزم. هناك بعض الكتاب، يبدعون حين يتخلّصون من الخوف، أوالخجل، ويفقهون عمق واقعهم المعيش. ومن هنا كانت القصة الناجحة قراءة ونقدا، هي التي ترصد، بصدق، الهموم اليومية للإنسان، مهما كان موقعه الاجتماعي. فلكل إنسان همومه الخاصة، سواء أكانت نفسية أواجتماعية أومادية أوفكرية. موروثة أوخاصة. ولا يمكن لأي إنسان أن يحيا حياة مثالية خالية من الشوائب.. ولعلّ من أهم المواضيع، التي ما زالت - للأسف - تشغل الإنسان العربي من الخليج إلى مضيق جبل طارق، علاقة المرأة بالرجل، أبا أوزوجا أوأخا أوحبيبا، أولنقل الصراع بين مفهومي الذكورة والأنوثة. وعالجت قصة ثوب النشل للقاصة البحرينية فاطمة النهام، هذه الإشكالية - التي ما زالت تشغل مجتمعنا العربي، منذ عصور ما قبل الإسلام - من زاوية ظاهرة الزواج القهري، والعلاقة الزوجية غير المتكافئة عمريا وعاطفيا بين الزوجين (لولوة) و(بوعيسى)، والعلاقة القائمة، ظلما، على مبدأ فوقية الزوج ودونية الزوجة؛ نظرا لسلطة التقاليد والأعراف، وغلبة الموروث البالي، وضعف الوازع الديني القويم، كما هوحال رقيق الشغل (جاسم) وزوجته (حصة). ما زال الرجل العربي، أوبالأحرى، الذكر العربي يفكّر بمنطق البداوة والقبلية والاستئثار والولاية المطلقة على الأنثى. وتلك ظاهرة قديمة، كانت لها ظروفها ودوافعها الخاصة آنذاك في هرم القبلية العربية. وبطلة القصة (لولوة)، في قصة ثوب النشل، ما هي إلا صورة منظورة وناطقة، تعكس مستوى العقل العربي في نظرته إلى الأنثى / المرأة. وهي نظرة دونية، لم تتطوّر، ولم تتغير نحوالإيجاب، رغم كل المتغيرات الحادثة في المنظومة الفكرية والفلسفية والدينية. فـ(لولوة)، هي قبل كل شيء رمز صارخ لضحية مجتمع ذكوري، مصاب - اتجاه المرأة - بجنون التفوّق والهيمنة والعظمة. سلبها إرادتها، وقيد حريتها، ومنحها نصف عقل ونصف عاطفة ونصف رأي ونصف كرامة. بالرغم من أن الدين الحنيف - الذي يتستّر وراءه الذكر - قد كلّفها تكليفا كاملا، وحمّلها مسؤوليتها كاملة، ومنحها حقوقها المعنوية والمادية دون نقصان، ولم يثبت العلم الحديث أنّ عقل المرأة أقلّ قيمة وأنقص من عقل الذكر استيعابا وعطاء. إنّ مكانة الأنثى في قصة ثوب النشل لا تعدو كونها آلة نسل وماكينة غسل و فرن طبخ «لقد تزوجته منذ خمسة عشر عامًا، وكانت ثمرة هذا الزواج أطفالها الستة. كان مهرها تافهًا، وحفلة زواجها لا تذكر». فلولوة وصديقتها، زوجة جاسم، تشتركان في واقع واحد، وهوالزواج القهري، المبكّر «لم تكن ترغب بالزواج منه، لأنه يكبرها بعشرين عامًا»، ودون مراعاة لعامل السنّ أوالتوافق أوالرغبة. كما تتقاسمان مصيرًا واحدًا. وهوالتعدّد دون أسباب موضوعية، أوغاية دينية، ما عدا سعي الذكر للظفر بالمتعة (اللوبيدية). وهذا ما يؤكّده زوجها قائلًا، عندما تعترض (لولوة) على سلوك (جاسم): «شنو ليش.. زواج على سنة الله ورسوله.. المرة كبرت.. ما منها فايدة.. لا صحة.. ولا جمال». إن الذكر في قصة ثوب النشل للقاصة البحرينية فاطمة النهام، في صورة والدها وزوجها وصديقه (جاسم)، فرد أناني، يمارس القمع النفسي والعقاب المادي، عندما يعجز عن الإقناع بالحجة الموضوعية. فلولوة ما زالت قوّة صفعة والدها على وجهها ماثلة في ذاكرتها، حين حاولت ممارسة بعض من حرية الرأي والاحتجاج والاختيار والرفض أوالقبول «... تتذكر جيدًا صفعة والدها القوية التي هوت على وجهها». غير أنها «أدركت حينها أنها ستتزوج هذا الفارس القادم.. شاءت أم أبت». هي، إذن، إشكالية شائكة وعميقة لمجتمع عربي، تغيرت مظاهره المادية؛ انتقل من الخيمة إلى العمران الحديث، ومن ركوب قوافل الإبل إلى امتطاء أحدث أنواع السيارات والطائرات والبواخر، غير أنّ نظرته إلى المرأة / الأنثى لم تتغير في الضمير الفردي والجمعي. ولم يستطع التخلّص من رواسب القبلية، ومن نظرته الدونية للمرأة العربية. بالرغم مما حقّقته هذه المرأة من إنجازات علمية وتقنية واجتماعية راقية في شتّى مناحي الحياة. أليست هي المجاهدة والمرابطة الشجاعة في ميادين المقاومة، والعالمة الحاذقة والطبيبة الذكية والأستاذة المربية والمبدعة المتفرّدة والسياسية الناجحة؟ بلى، لقد أنجزت بعض النساء ما عجز عن إنجازه بعض الذكور. والمتأمّل لقصة ثوب النشل للقاصة البحرينية فاطمة النهام يلحظ اعتمادها على معايشة الفكرة وواقعية الطرح وبساطة الأسلوب واللغة، والاستغناء عن الخيال الفنّي. فالقصة تحيل القارئ إلى المدرسة الواقعية النقدية، وهذا ما أكسبها حسّا مأساويا، و صدقا وتعاطفا وتجانسا ما بين المنطلق والغاية. لقد حاولت القاصة فاطمة النهام - كما حاول غيرها من الكتاب قبلها - أن تنكأ هذا الجرح في جبين المجتمع العربي، وهوجرح لم يبرأ، رغم كل تعاقب الأزمان والأجيال، ورغم المتغيرات الاجتماعية الحاصلة. وهي محاولة هادفة لقاصة مبدعة تصبو إلى انتشال المرأة العربية من دونيتها، وتخليصها من قبضة الذكر العربي، وتحريك العقل الباطن، وتفكيك عقد نفسية رسخت في أعماق هذا الكائن الذكوري العربي المتسلّط، وكأنّها من البديهيات والمسلّمات المقدّسة «وفي لحظة، نفضت جلابيتها، لتجد خرق ثوب النشل تتساقط عند الشاطئ، لتسحبها الأمواج بعيدًا، ومنها طارت أدراج الرياح». ولم يكن الصراع الدرامي بين لولوة وأبيها وبينها وبين زوجها صراعا قويا، لا بسبب ضعف شخصية بطلة القصة لولوة، وإنّما بسبب قوّة الأعراف الاجتماعية وسلطتها المعنوية، وهي أعراف قبلية مقدّسة، توجب على المرأة احترامها وطاعتها، وتحرّم عليها خرقها، وتجرّم انتهاكها، وتعاقب كل من تطاول عليها.. لهذه الأسباب، ظهرت لنا البطلة، وكأنّها مستسلمة لقدرها، وإرادة أبيها، وسلطة زوجها. ومهما كان موقف القارئ العربي، أكان متعاطفا مع زوجة بوعيسى (لولوة)، وزوجة جاسم (حصة)، أو كان متحاملا عليهما بحجة أنّ المرأة ما دامت في عصمة زوجها فعليها السمع والطاعة، ومن حقّ الزوج التعدّد، لأنّ الشرع قد أباح له ذلك، فإنّ قصة ثوب النشل هي صرخة أنثوية صادقة، وإدانة قوية للسلوك الذكوري الشاذ. لأنّ العلاقة الزوجية قائمة على المودة والرحمة والقبول، لا على الإكراه والقوّة. إنّ الدعوة إلى تحرّر الأنثى العربية من الخوف والاضطهاد الذكوري لا يعني، بتاتا، اتّباع الأنثى الغربية وتقليدها في سلوكها وعلاقاتها الاجتماعية. بل هي دعوة إلى بناء منظومة أنثوية عربية إسلامية، لا غربية متوحشة، مشوهة الروح، سافرة الجسد، ولا أمة شرقية منزوعة العاطفة والحقوق الفطرية، مكبّلة الفكر والقلب... اتّسمت نهاية القصة بدفقة تفاؤلية. لأنّ تمزيق ثوب النشل والتخلّص منه يرمز إلى استشراف قوي نحو التغيير الإيجابي. وهي تفتيت لعقدة الولاء المطلق للذكر، والاستسلام للواقع السوداوي المفروض. إنّ الإبداع الأدبي والفني لا يطرح الحلول، ولا يقدّم البدائل، ولكنّه قبس يوقظ المشاعر والعواطف الراكدة. ولعلّ قصة ثوب النشل للقاصة البحرينية (فاطمة النهام) قد أمطرت غيثا نافعا على الأرض اليباب.
مشاركة :