انتهى منذ أيّام معرض الرياض الدولي للكتاب بما حمله واحتمله من آفاق تنويرية تمثّلت في جوانب كثيرة ليس أولها حضور الكتاب وفق سقف حرية هو الأعلى كما يبدو، وليس آخرها تلك المناشط المصاحبة له والمتميزة بتنوّعها وتعدد أشكال الفن فيها.. ومثل هذه المعارض الثرية بالثقافة والتنوير بحاجة ماسة لاستثمارها من قبل مثقفينا على اختلاف توجهاتهم وتباين رؤاهم. فإذا سلّمنا بنجاح الصحوة خلال العقود الأربعة الماضية في قيادة المجتمع وتوجيهه، وأخذه إلى توجّهات فكرية غاية في التعقيد، والالتباس مع عاداته وتقاليده وتديّنه، فإنه حتماً علينا التسليم بفشل المثقف للقيام بهذا الدور، حتى وإن كان لا يستهدفه أو يتمثّله، فإذا كان المثقف برؤاه ووجوده لم يؤمن يومًا بهذا الدور ولم يسعَ إليه، فإنه على الأقل لم يقم بواجباته التنويرية المتوخّاة والمرجوة منه، فمجتمعنا منذ نشوئه أخذته الدولة من التفرّق والجهل والعصبية القبليَّة إلى العلم والمعرفة والانفتاح على الحياة العصرية، ثم تركته يختار توجّهه وفق نظم وقوانين وأحكام وحريّات مكفولة باتزانها مع النسق العام للتعايش، ومن هنا يقع اللوم على المثقف في مواجهة الصحوي والحركي حينما رفع راية الاستسلام مبكراً، وترك المجتمع في ذمة مَن يقوده بمنأى عنه. إن الصراع الخفي والمعلن بين الفكر التنويري والفكر الحركي خلال العقود الأربعة الماضية لم يكن صراع فكرة، بل صراع حشد، وهذا هو مكمن الفشل عند المثقفين، فالحركيون الصحويون احتشدوا بالأتباع ونفَّذوا بهم أجنداتهم، وواجهوا بهم مصارعيهم، واتكلوا عليهم في حشد مزيد منهم، في حين تناءى المثقفون، وتعالوا في أحايين كثيرة على شؤون المجتمع وشجونه، وانصرفوا إلى لومه وتعنيفه وخلق الصدامات المباشرة وغير المباشرة معه. قليلون جداً من جاهدوا وناضلوا من أجل «فكر تغييري» حين انجرف آخرون إلى «فكر تكريسي» ليجدوا لهم مكاناً بين هذه الجموع.. قليلون جدّاً من فكروا وحاولوا مواجهة الفكر بالفكر لا الصدام معه، مواجهة النفور من الحياة إلى الإقبال عليها.. القفز من منابر الوعظ إلى منصات الفن، فإذا كانت سياسة الحركيين مصادرة مخالفيهم وتشويه وجودهم، فإن المثقفين لم يخلقوا يوماً قناة تواصل متكافئة مع المجتمع لتحسين صورتهم أو إبراز نضالهم، حتى القلة القليلة ممن ظلوا يؤمنون بهم وينتظرونهم لم يلتفتوا إليهم ولم يحرصوا يوماً على المحافظة عليهم. اليوم وبعد أن تكشّفت للجميع مساوئ ما كنا عليه، وأخذنا التيار إلى مناطق تكره الحياة وتستبيح الإنسان بحجة الدين، عادت الدولة لتتدخّل من جديد لتأخذ بيد المجتمع إلى حياة المدنيّة والتعايش، وأعادت التوازن النفسي والفكري إلى المجتمع عبر قرارات تاريخية، ولا سيما فيما يتعلق (بالمرأة)، وهي مسمار جحا الذي استثمرته الصحوة جيداً، وقادت به العواطف والغرائز معاً، أقول اليوم على المثقفين أن يقوموا بدورهم التنويري، وأن يستثمروا هذا التوهّج الثقافي رسميّاً وشعبياً، ويحرصوا بالتالي على أن لا يكرّروا فشلهم السابق حينما ابتعدوا عن المجتمع، وأن يضعوا يدهم في يد الدولة؛ ليقودوا هذه المرحلة التغييرية الحاسمة والمهمة في تأريخ بلادنا، فمجتمعنا اليوم بحاجة لمن يأخذ بيده لما يريد هو، دون تفريق بين مثقف أو داعية..!
مشاركة :