د. عبدالله الغذامي يكتب: هل تتذكر الطيور تغريدها؟

  • 4/8/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لا تحتاج الطيور لتذكر تغاريدها، لأنها تغرد التغريدات نفسها ولا تمل من إعادتها ومواصلتها، ولا يتوقف العصفور عن التغريد ليستمع لتغريد زميله، والعصافير تنطلق كلها بنغمة واحدة بتغريدة ترددها كل الحناجر، وفي البشر هناك نوع نسميهم الشعراء لا يملون من ترديد تغريداتهم «قصائدهم»، بل يظل الناس يطلبون من الشاعر أن يعيد لهم الترنم بقصيدته المفضلة أو قصائده المفضلة، وهذا مطلوب من الشاعر نفسه، وكلما نجحت قصيدة من القصائد في أن تكون مطلوبةً في أي حضور للشاعر، فهذا يقرب حال الشاعر من حال العصافير في صفة من الصفات الملازمة لشخصيته ولمقامه، ولكن غير الشاعر من المبدعين والباحثين يقعون في مصيدة التكرار المذموم، ولو ألقى أحدنا محاضرة فسيكون عيباً منهجياً عليه لو كررها بعد سنة من إلقائها، فالفكر مشروط بالتجدد والتنوع، ولكل موقف متطلب يختلف عن سابقه، ولأن العصافير لا تفكر، فإنها تكرر تنغيماتها من دون ملامة من جمهورها، بل إن جمهور العصافير يكرر النغمة نفسها من دون ملل أو كلل، بينما الشاعر ملزم بالتذكر لكي يعيد ما قال كما قاله ابتداءً ولو سها فسيجد من جمهوره من يذكره بما نسي وإن وقع شيء من هذا التذكير، فإنه يقلب القاعة تصفيقاً ونشوةً وطرباً بالحدث، وستكون لحظةَ تحولٍ نوعي في حال القاعة التي تشهد حدثاً كهذا، وسيمتد للإعلام بوصفها قصةً تغذي الفضول وتطرب الاستقبال. والشعر يشفع للتكرار، لأن الشعر هو أشبه الفنون بالتغاريد، والعصفور والشاعر في هذا يتصلان بصلةٍ تجعل لهما معاً سمةً عصفوريةً مشتركة، بينما الفكر ليس تغريداً ولا يقوم على الإيقاع اللفظي بل يتصل بإيقاع عقلي، وعموده المنطق وليس التطريب النفسي والوجداني، ولذا فالتكرار فيه يجعل العقل المستقبل يتوقف عن التفاعل مع فكرة مكرورة، وهذا دفع بالفكر البشري للتجدد وجعله عرضةً للتعديل والتغيير المستمر، فيعدل المفكر مقولاته كما يعدلها غيره ممن يتبنون فكرته الأم ويولدون منها أفكاراً دائمة التجدد، ولكن الشعر يظل مادةً لتزويد الفكر بحيوية مجازية لأن الشعر أشجع في صناعة المجاز وتجديده وفتح مجالاته من دون وجل، وهذا يستثير الفكر ويحرك الأسئلة تماماً مثلما تستثير تغاريد الطيور بعامةٍ حاسة الموسيقي وحاسة الفنان كما حاسة الشاعر، ويستلهمون إيقاعاتهم من تدفقات أنغام الطيور، ويتولى الشعر بدوره استنهاض لغة المفكر لكي يصنع من المجازات مصطلحات تتولد عبرها مفاهيمُ معرفيةٌ ذات بعدٍ حيوي بإيقاعات فكرية تختلف عن إيقاع الشعر، لأن إيقاع الفكر إيقاع معقلن تتحرك معه العقول والوجدانات معاً.

مشاركة :