فيما رواه الأستاذ محمد حسين زيدان عن حكايات رفاقه من الجيل الأول جيل العشرينيات وما بعدها أن محمد حسن عواد كان يتباهى على أقرانه بأن عقله آري، وأنهم لا يفهمون أفكاره لأنهم شرقيون، وسمى نفسه أبولون ونشر مناوشاته مع حمزة شحاته تحت هذا اللقب في حين كان شحاتة يستخدم (هول الليل) لقباً له وظهر العواد كمؤلف متمرد عام 1926 مع كتابه المثير للجدل خواطر مصرحة، وهو مع صحبه ورفاق دربه يسند للمقولة عن العقل الآري والعاطفة الشرقية في تمييز عرقي يعود لتمييز طبقي، ومن ثم تمييز للعقل وتقليل للعاطفة، فالعاطفة شرقية، وهي أيضاً أنثى، وحين ترد كلمة فلسفة فسترى بعين ذهنك رجالاً بيضاً، وسيحدث الشيء نفسه لو فكرت بالموسيقى والاختراعات والكشوفات، وغالباً يتحلى الناس بعامة بمعرفتهم بأسماء الرجال البيض في فنون تعد قمماً في المعرفة الثقافية التي تمكنت من غرس نماذجها الذهنية وأزاحت غيرها من نماذج ثقافية عظمى مرت على البشرية على مدى تقلبات الأزمنة، وعيب تلك النماذج غير الأوروبية البيضاء هو في انقطاع تسلسلها وهذا ما أغرى هيجل بالقول: إن الحضارة ابتدأت من الشرق وانتهت في الغرب، والمعنى هنا هو بلوغ القمة، ورغم غرور هذه المقولة إلا أن الواقع الكوني ظل ينحاز للرجل الأبيض وظهر كبيليج بقصيدة فائقة الغرور (عبء الرجل الأبيض)، والتي تنص على حق الرجل الأبيض باستعمار الأرض وفرض نموذجه الحضاري دون اعتبار لهوية الأرض والثقافة ورغبات البشر الذين سيجري احتلال أرضهم وعقولهم معاً، وهذه الصور الذهنية جاءت عن ترابط ذهني بين المنتج وصانع المنتج، والصور الذهنية هنا هي شهادات حضارية ترسم موقع الرجل الأبيض في احتلال الذهن البشري بسبب تعاقب إنتاجيته. وارتبطت الفلسفة بالقوة والتفوق العقلي والجسدي، وتبدو صور الإغريق قويةً ووجوههم صارمةً، وظلت صور الفلاسفة تحمل المنظر الصارم والرجل الأوروبي من أثينا القديمة إلى ألمانيا الحديثة ومعها بقية دول أوروبا الشمالية، وجاءت فكرة العقل الآري التي بلغت أشد حالات تطرفها مع النازية الآرية التي فرضت المعنى، وقسمت البشر لتفضل أصحاب العيون الزرق والأجساد الضخمة ومنحت العقل تميزاً مماثلاً، وكان المنتج العلمي والاقتصادي المتحقق للشمال يقوي هذه المعاني، ويجعل الواقع بمثابة حجة منطقية تعزز رقي عقل معين على سائر عقول البشر غير البيضاء الشمالية. ومن الأكيد أن هناك ترابطاً بين التعليم والتفوق، ففي الحضارة العربية كان للعرب دور متفوق في عصور نهضتهم الأولى، وحين وصلوا للأندلس بهروا الغرب وأصبحوا هم نماذج التفوق ومعهم النموذج الإغريقي الذي نقلوه معهم، وهذان نموذجان كانا الأهم حينذاك، ولكن المرأة ظلت في غياب عن الصورة حتى أزمنة حديثة جداً، والسر مرة أخرى في التعليم بما أن المرأة كانت خارج التعليم على مدى العقود، وحين تعلمت ظهرت على الواجهة. ولكن تعلم المرأة وتعلم شعوب الأرض الأخرى لما يزل تبعاً، وإن توالت الجهود نظرياً في مقولة (التعددية الثقافية) التي تكسر فكرة التفرد العرقي التي تمارس الربط الذهني للتفوق مع أشكال ووجوه وألوان المتفوق، فتجعل الرجل الأبيض الأوروبي هو الذي يتصدر القائمة، وتظل هذه الصورة تكافح لتعزيز موقعها عبر الشعبوية التي اجتاحت أميركا وأوروبا لتعيد صيغة حديثة لمقولة (السيد العبد) الأفلاطونية التي تظل تعاود الظهور حسب الفرص التاريخية المتاحة لها، فظهرت لتكون نظرية استعمارية (مهمة الرجل الأبيض)، وحين انقشع زمن الاستعمار جاءت عبر صيغة الشعبوية النافية للتعددية، وترى أن المساواة شر مؤكد لأنها تساوي بين العبد والسيد، وهي مقولة أفلاطون أصلاً، وتظل تتجدد كلما واجهها تحد ما يحاول هز سلطويتها.
مشاركة :