مع كل حقبة تعليمية، وقيادة تعليمية جديدة تعود قضايا التعليم المزمنة لتتكوم أمامنا حتى تسد الأفق، والتي هي إشكاليات لا تتعلق بشخص أو مرحلة بقدر ما تتعلق بفلسفة التعليم لدينا أو تحديدا غياب هذه الفلسفة عن التعليم. هل التعليم كفلسفة وغاية وهدف هو فقط لنقل الطلاب من مرحلة أمية الحرف إلى مرحلة أعلى قليلا أي ما يوازي (الكتاتيب)؟ هل التعليم لغرس قيم ومبادئ تسعى إلى دعم الوضع القائم والمحافظة على ثباته؟ هل هناك استراتيجية وطنية كبرى يندرج بها (التعليم العام، والتقني الفني، والعالي، إضافة إلى متطلبات سوق التنمية)؟ ما الأدوار التي نعدّ الطلاب لها في دولة تمثل ميزانية التعليم بها ربع دخلها، أثناء فرصة تاريخية نادرة تهيأت لسكان جزيرتنا الصحراوية فلن يبقى البترول أو سعره أو الطلب عليه أيضا هكذا إلى الأبد؟ على حين أن السنوات التحضيرية التي تقدمها الجامعات لطلبة التعليم العام قبل الالتحاق بها مؤشر كارثي لمخرجات التعليم العام لطالب أمضى اثني عشر عاما في مؤسسة عاجزة عن أن تدربه حتى على مهارات الكتابة الصحيحة والإملاء. عملتُ في وزارة التعليم وبالتحديد في جهازها المركزي ما يقارب العشر سنوات أي بالقدر الذي يتيح لي التعرف على تفاصيل المشهد عن قرب، وأعتقد من هنا أن مأزق التعليم لدينا هو نموذج مصغر على التحديات التي واجهت وتواجه مرحلة التأسيس في الدولة، وهي عملية الصراع والتجاذب بين طموحات دولة تحاول أن تؤسس لمشروعها التنموي المستقبلي، وبين تيارات تسعى إلى وضع العراقيل في سبيلها وتجميدها في حالة سكون أزلي. فجهاز الوزارة هو جهاز كبير ومتضخم ولا يمتلك اللياقة والمرونة والمهارة.. بحيث أي مشروع يصب فيه من الممكن أن ينتهي ويتلاشى ويتفتت داخل الممرات الإدارية الطويلة والممتدة بعيوبها وندوبها ومحاولة البعض توظيف مشاريع الوزارة لمصالح شخصية. والهيكلية الإدارية متشعبة وكبيرة، الاتصالات الإدارية داخل الوزارة متاهة ! مع تشوش واضطراب في هيكلية الوزارة حيث يوجد إدارات مكررة تقوم بنفس المهام دون تنسيق فهي تعمل كجزر معزولة يغيب عنها الهدف الاستراتيجي المشترك، إضافة إلى تدني القدرات والمهارات الحديثة عن كثير من موظفيها بحيث يعملون بالحد الأدنى من طاقاتهم أي باختصار تتكرس هناك جميع مشكلات القطاع الحكومي. - على مستوى آخر نجد أن هناك داخل الوزارة حالة انقطاع عن روح العصر، بالتأكيد كنا نسمع بأشياء مخالفة مثل السبورة الإلكترونية الذكية، وجهاز لوحي لكل طالب وسوى ذلك من الوعود ولكن تبقى جميعها مجرد أوعية معرفية وليس المعرفة نفسها وما فائدتها إذا كانت المناهج تنتمي إلى مرحلة ما قبل العلم محتشدة بكم من الحشو الذي لم ولن يوظفه الطالب في أي تحد أو معضلة قد تواجهه في حياته لاحقا، لاسيما مع غياب طريقة التفكير النقدي عن وعيه، المستبدلة بالتلقين الإذعاني.. فداخل الوزارة هناك مقاومة كبيرة تتربص بأي تطوير معرفي من الممكن أن يُحدث طفرة إيجابية في التعليم كتلك التي حدثت في كوريا أو ماليزيا أو سواهما من الدول التي حقق لها تطوير تعليمها قفزة حضارية. التحدي سيكون كبيرا لاسيما مع تماس قطاعات الوزارة مع قطاع كبير من الجمهور من طلبة وأولياء أمور ومعلمين وإداريين، باستطاعتهم تجييش رأي عام سلبي دائم ضد الوزارة ما لم يلمسوا تغيرات عميقة وملموسة. وكما قلت تحديات من هذا النوع لن تكون حلولها عبر عصا سحرية، فهي وزارة طاحنة وعصارتها الهضمية فتاكة باستطاعتها أن تهضم وتفتت أي موهبة أو خبرة، وكم من خبرات وشهادات أكاديمية ومواهب بين ردهاتها تفتتت وتلاشت، وكم من مشروع تحول إلى وريقات تتناقله اللجان والإدارات حتى..اختفى. فأعان الله وزير تعليمنا الجديد..
مشاركة :