أثار استحداث وزارة للسعادة في التشكيل الحكومي الجديد في دولة الإمارات قبل أيام، موجة سخرية من قبل بعض العرب المحسوبين على الثقافة والإبداع في مواقع التواصل الاجتماعي. امتدت هذه السخرية إلى بعث التصورات الشوفينية والأفكار المقولبة عن ثقافة النفط وعرب الخليج. التقط كاتب في صحيفة «الغد» الأردنية هو إبراهيم جابر أطراف هذه الحرب التهكمية وكتب مقالاً قصيراً في التعليق عليها، عنوانه: «وزيرة السعادة وحليب النوق»، افتتحه بالقول: «ليس المؤسف فقط أن تكون غير منتج، لكن المؤسف والمثير للشفقة أن تسخر من المبدع المنتج». كما أشار إلى مثقفين كسولين يجترون أمجاد اليسار بشتم الدول النفطية. لقد نشأ خطاب ثقافي عربي منذ السبعينيات من القرن الماضي مع تصاعد مداخيل النفط، يقوم على اعتباره خطيئة تاريخية غير قابلة للغفران. ازدهر الخطاب في السرد الروائي والشعر والمقالة، وقام على قولبة المجتمعات الخليجية، وتنميط البشر والعلاقات الإنسانية وتشويه منظومة القيم فيها. وتأسس الخطاب على دمغ الخليجيين بالجهل والقساوة والشراهة الجنسية وعبادة المتع والملذات. ومن رصد انطباعي، فإن التنميط في السرد بخاصة، نجى منه المجتمع العماني والبحريني، في حين نال منه السعودي يليه الكويتي الحصة الأكبر. أما هجاء النفط شعرياً، فكان يشير غالباً إلى حالة عامة بدون تخصيص لمجتمع بعينه، مع أن الرموز الشعرية أوحت بالتخصيص أحياناً، لكن تظل للشعر طبيعته التي تخالف الرواية في قيامها على عوالم محددة. وظهر نزار قباني القائل: «هجم النفط مثل ذئب علينا... فارتمينا قتلى على نعليه»، كأحد الأعمدة المهمة التي أسست لهذا الغرض الشعري. استعذب الخطاب الثقافي الذي ساد في مصر وبلاد الشام على مدى سنوات، شتم الثقافة الصحراوية، التي لم ترث حضارة (العشرة الآف عام). وشتم النفط واستخدامه مشجباً تُعلق عليه المصائب، وتُربط به المشكلات الداخلية في البلاد العربية، بداية من انحطاط الفن والسينما، وصولاً إلى فساد النخب وانسداد الأفق السياسي. وشخصياً حسبت أن هذه الموجة الشوفينية في الخطاب الثقافي انكمشت مع طوفان المتغيرات الهائلة، سياسياً واقتصادياً وأمنياً التي مرّت بالعالم العربي خلال السنوات الأخيرة. ومع مستجدات داعش و(الربيع العربي) والمد الفارسي والحروب الأهلية. لكنني كنت واهمة على ما يبدو، والدليل ما طفحت به مواقع التواصل الاجتماعي من بعض المثقفين العرب الناشطين فيها، على خلفية إعلان وزارة إماراتية للسعادة. من اللافت أنه مقابل جلد المال الخليجي، وتحميله وزر تخريب الحياة الثقافية وتسطيح الإعلام وشراء ذمم الكتاب، لا نسمع شيئاًعن كتيبة الإعلاميين والصحافيين العرب، الذين أخذوا على عاتقهم أنسنة توحش حكم الولي الفقيه، وتوطين مصالح واعتبارات ملالي إيران، في خطاب الإعلام العربي. لم يكن هناك أبلغ من صورة من نصفين، عرضها الإعلامي فيصل القاسم قبل أيام من خلال صفحته في «تويتر». النصف الأول من الصورة يُظهر بيروت النظيفة الضاجة بالبشر وبالحياة. والنصف الآخر منها، يظهر بيروت الخاوية على عروشها التي تحولت إلى مكب نفايات. والتعليق: هذا هو الفارق بين زمنين، زمن المال السعودي وزمن المال الإيراني. إن الدعم المتأتي من مداخيل النفط الخليجي، هو الذي ساعد عدداً من الدول العربية في مشاريعها التنموية، بدءاً من كنس الشوارع وتنظيفها، إلى فتح المدارس وشق الطرق، إلى تسديد المديونيات، إلى تمويل الجيوش الوطنية. وحين أعلنت السعودية مطلع الأسبوع الجاري، عن ايقاف الهبة المالية الكبيرة المخصصة للجيش اللبناني، سمع الناس تباكي هؤلاء المثقفين الشوفينيين. كان ذلك فصلاً في قصة المال النفطي الذي شُتم كثيراً، وتمت شيطنته، لكنه يبقى المشتهى المرذول، والمأكول المذموم. من جهة أخرى، عزّز بعض المثقفين العرب تقليد النفاق للنخب السياسية في الخليج، وما يتبع ذلك من إفساد الوعي وتزييف الواقع وتلميع بعض ما فيه من سماجة، في سبيل مكاسب شخصية. بلغ ذلك في بعض الأحيان درجة مسفّة، حتى ليجعل أحد الكتاب أو الإعلاميين العرب من نفسه مثقفاً مواطناً أكثر من المثقف المواطن ذاته في الرياض أو الكويت، بينما هو جالس في شقته في إحدى العواصم الأوروبية. هذا شكل من التخريب لوعي الإنسان الخليجي يمارسه الآخر الذي يقول أن المال الخليجي خرّب ثقافته ووعيه هو. وفي السنوات القليلة الأخيرة، أفرزت مواقع التواصل الاجتماعي فصيلاً من الإسلامويين، من العرب ومن غير العرب الذين يجيدون لغة الضاد، ممن امتهنوا المزايدة على السعوديين في قضايا محلية بحتة. على سبيل المثال، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي سجالاً محتدماً بين السعوديين، خلال الأسبوعين الماضيين، حول ممارسات بعض عناصر «هيئة الأمر بالمعروف» الخارجة عن الأطر القانونية، والتي تشكل انتهاكاً صارخاً لحقوق الأفراد. بدأ الحزبيون المقيمون في بلادهم، والمتطفلون على قضايانا الداخلية، بالمزايدة الدينية على المغردين وكتاب الرأي السعوديين الناقدين لهذه الانتهاكات، مع وصمهم بأنهم شراذم من الليبراليين الذين يريدون تدنيس مهبط الوحي. ثم خرسوا لاحقاً ولم يجدوا مزيداً من القول، حين أعلنت وزارة الداخلية إيقاف هذه العناصر المتورطة من جهاز الهيئة والتحقيق معها. الصغار المؤدلجون يبقون صغاراً، حتى في اختيار معارك لا تخصهم، على أرض بعيدة ليست بأرضهم. من الطريف أن المثقفين العرب الذين استنجدوا بكل ذخيرتهم الشوفينية للسخرية اللاذعة من وزارة السعادة في الإمارات، يعيشون في دول تعاني من البنية التحتية المهترئة، وينخرها الفساد والتخلف اللذان يجعلانها تعيش بفارق مائة سنة عن دبي، المذهلة في قفزتها التنموية. دبي تنهض على نموذج يعتمد الرفاه الاقتصادي والحريات الاجتماعية والثقافية. وكل ما تقوم به يصب في مصلحة هذا النموذج الذي أثبت حتى اليوم كفاءة، في ظل الظروف الواقعية والشرط التاريخي الراهن. دبي التي خصصت وزارة للسعادة وركزت على الأمن والرخاء والرفاهية، لم تُسوّق أمراً آخر أو تدّعي لنفسها شيئاً من ثقافة الاقتراع والديموقراطيات. أما المثقف العربي الذي سخر من نموذج دبي، فهو في دول لم تحقق تطورها المادي من جهة، كما أنها من جهة أخرى ما زالت إما تعتمد على قوانين الطوارئ، وإما تقوم على التضييق الأمني والقمع المخابراتي. ولو أن هذا المثقف (التقدمي) انتقد وزارة السعادة، من كونها بلا نظير في تاريخ الحكومات في كل بلاد العالم، وأن تحقيق السعادة هو محصلة محتملة لدولة الرفاه والحقوق بلا حقائب وزارية خاصة، لكنت شخصياً شاطرته الرأي. توجد تغيرات بنيوية في غالب المجتمعات الخليجية، بدّلت كثيراً من المواضعات التي استمر بعض العرب يبني عليها الصور النمطية. فمقابل الصبية الذين يسافرون للاستعراض بسياراتهم الفارهة في لندن وباريس، ويمارسون السفه المادي، هناك مئات الألوف من الشباب الذين يعملون مع مطلع كل شمس لكسب لقمتهم الحلال، في البيع، وفي أعمال الحراسة، وفي التدريس في قرى بعيدة. كما أن هناك عشرات من الأطباء والمهندسين اللامعين. وأمام نماذج النساء التائهات في دوامة العنف المنزلي وأروقة المحاكم، هناك نساء يدرسن في الجامعات الغربية، أو يعملن في المعامل والمختبرات، أو يشغلن مناصب ديبلوماسية. ومقابل الصورة التقليدية عن دول ومجتمعات تسبح فوق بحيرات النفط، يوجد بالمقابل خطط تنمية متعثرة وتحديات مهولة أمام تنويع مصادر الدخل، ومواجهة مشكلات السكن والإرهاب وقوائم العاطلين. المحصلة أننا في الخليج أمام تجارب تنموية نجحت وأخرى كانت أقل نجاحاً. وأننا أمام الجيد والرديء، والناضج والفج. وهذا حال جميع المجتمعات الإنسانية، إذا تم النظر لها من خارج الرؤى الاستشراقية المستعارة، الصادرة من بعض ذوي القربى. * كاتبة وعضو مجلس الشورى السعودي
مشاركة :