في «انحطاط» السياسة العالمية والرد عليها | وائل مرزا

  • 2/28/2016
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

«الجواب ما ستراه، لا ما ستسمعه». على المدى الاستراتيجي، تبدو العبارة السابقة من تاريخنا، الردﱠ الأمثل على درجة الابتذال التي تُميِّز السياسة الدولية اليوم تجاه المنطقة العربية عمومًا، وفيما يتعلق بالقضية السورية تحديدًا. لا مفرﱠ، من إعادة التذكير -هنا- بالجملة التي لخَّص الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان رأيهُ في السياسة من خلالها قائلًا: «من المفترض في السياسة أن تكون ثاني أقدم مهنة في العالم، لكنني أدركت مع الوقت أن هناك شبهًا كبيرًا بينها وبين أقدم مهنة»! لكن تصريح ريغان بـ»اكتشافه» منذ ثلاثة عقود ونيف يدفعنا للتساؤل عما كان له أن يقوله في معرض وصف المشهد السياسي العالمي، والأمريكي تحديدًا، في هذه المرحلة. ما يجري، هو التعبير عن وصول النظام الدولي، أخيرًا، إلى التماهي الكامل مع أقدم مهنةٍ في العالم دونما الشعور بحاجةٍ للمناورة أو التمويه. وبمعزلٍ، حتى، عما قد يكون لدى أهل تلك المهنة أحيانًا من أعذار. وفي مقابل تلك الممارسات ومعانيها، لاغريب أن يُوصف العاملون في تلك المهنة بأنهم شرفاء. من هنا، فالتعامل مع هذا الواقع القبيح والمعقد يتطلب مقاربةً أخرى مختلفةً عن كل مقتضيات الفكر السياسي السائد تاريخيًا وحتى الآن، لأنه بدوره واقعٌ مختلفٌ كليًا عن كل ما سبق أن رآه تاريخ العلاقات الدولية. وهذا ما يجعل السعودية، تُجهِّز كل السيناريوهات والبدائل للتحضير لما هو أسوأ. وهذا ما يبدو أن دولًا عربية أخرى اقتنعت به لتمضي في نفس الدرب بقيادة الشقيقة الكبرى. ثمة حقائق في هذا الإطار يجب الحديث فيها بوضوح وشفافية. إذ تبدو الثقافة السياسية السائدة لدى كثيرٍ من الشعوب العربية غير قادرة على التصديق بأن العرب يمكن لهم يومًا أن يدفعوا بجديةٍ لتحقيق مصالحهم، ولو تناقضت في جوانب معينة مع إرادات الدول الغربية، وأمريكا تحديدًا. لا يقبل العقل العربي بغير منطق الثنائيات الحادة والمتقابلة بشكلٍ ضدي. فإما أن تكون السياسة تبعيةً كاملةً لأمريكا، أو تصبح مواجهةً غوغائية ومباشرةً و(عنيفةً) معها. «الإرادة الدولية» أشبه بحتميةٍ قَدَريةٍ في الأرض، لا مردﱠ لها، وفق تلك الرؤية. وإذا شُوهدت ممارسةٌ تلوح فيها شبهة (مدافعة) تلك (الحتمية) ورفضُ مقتضياتها، فالأمر ليس كما يبدو عليه إطلاقًا، ولابد أن ثمة أمرًا خفيًا يجعل عملية المدافعة نفسها جزءًا من (الخطة) التي رسمتها تلك الإرادة الدولية. هكذا، تتجلى الثقافة السياسية المذكورة في عبارات شعبية مألوفة: «مستحيل أن تفعل الدولة الفلانية كذا لو لم تكن أمريكا موافقة»، «أصلًا الدولة الفلانية تفعل ذلك لأن أمريكا تريده لأنه جزءٌ من الخطة على المستوى البعيد ولو لاحَ أنه ضدها»، إلى مثلها من الأقوال التي كثيرًا ما تتردد، وتُعبر عن درجةٍ خطيرةٍ من فقدان الثقة بالنفس أو بمن يحاول فعل شيءٍ جدي عربيًا، بل يوحي بهزيمةٍ داخليةٍ كُبرى. أما الخيار الآخر لدى هذا العقل في حال سألته عن أسلوب المواجهة والمدافعة فينحصر تحديدًا في المجابهة المباشرة الحماسية الاندفاعية بتجليها العسكري تحديدًا وبغض النظر عن كل الحسابات والنتائج الممكنة. لا حلﱠ لدى أصحاب هذه الطريقة في التفكير سوى في تصرفاتٍ هي، في نهاية المطاف أشبه بالعمليات الانتحارية التي تُلغي النفس و(الآخر/ العدو) من هذا الوجود، على أملٍ يُعزي النفس بأن مثوا(نا) بعد ذلك هو النعيم، ومثوا(هُم) هو الخسران. ثمة معنىً خطير في نمط التفكير هذا، فهو يُحيل، من ناحية، إلى منهج حركات الغلو والتطرف ويتطابق معها. فضلًا عن أنه يفرض هذا المعنى السطحي للـ (الخلاص) الموهوم على المستوى الفردي ويريد تعميمه على الدول والمجتمعات. بهذا الاختزال والتسطيح، يغدو طبيعيًا ألا يشيع التفهم السياسي لمواقف تركيا والسعودية، مثلًا، من التدخل البري في سوريا بشكلٍ فردي أو ثنائي. وتُسمع مقولات خيبة الأمل بين شرائح متحرقة، بشكلٍ محق، على مآسي الشعب السوري، لكنها تغفل عن طبيعة السياسة الدولية بالمعنى (الريغاني) الذي تحدّثنا عنه، وعن مقتضيات التعامل معه بحكمةٍ وتدرج ومرحلية. ورغم الاتفاق الكامل على حجم المأساة التي يعاني منها الشعب السوري، لكن تلك الطبيعة المبتذلة للسياسة الدولية تفرض درجةً عالية من الحسابات، بحيث لا تأتي القرارات والممارسات السياسية سببًا لانتحارٍ ذاتي للجميع، لا يتحقق معه أصلًا هدف إنقاذ الشعب السوري من مأساته، فضلًا عن مساعدته على تحقيق طموحاته. ثمة عملٌ سياسي وعسكري وإعلامي ودبلوماسي حقيقي ومحترف تقوده السعودية في المنطقة، بغض النظر عن كل الأحكام السطحية. فهي ومن معها تُدرك طبيعة التهديد الوجودي الذي يواجهنا جميعًا. ورغم إلحاح العمل في مرحلةٍ معينة وفق القواعد السائدة في العلاقات الدولية، ورغم أنها تُحاول جاهدةً أن (يسمع) الآخرون ويفهموا.. إلا أنها تتحضر لما قد يكون أسوأ، ولسان حالها يقول: «الجواب ما سترونه، وقتها، لا ما ستسمعونه». waelmerza@hotmail.com

مشاركة :