أثارت ملحمة مخيم جنين، مثل غيرها من ملاحم صمود ومقاومة وانتفاضات الفلسطينيين، مشاعر الافتخار والتحدي عند الفلسطينيين، واستعادة ثقتهم بذاتهم، وبسعيهم الدؤوب لانتزاع حريتهم وحقوقهم، وضمن ذلك فتح النقاش مجددًا حول معنى النصر والهزيمة، في صراع ممتد، ومضني، ومعقد، ومكلف، مع إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والدينية والعدوانية. والحقيقة فقد استطاع المقاومون في مخيم جنين، فرض أسطورتهم، بروح التضحية عندهم، وبإصرارهم على منع عدوهم من فرض إرادته عليهم، وهذا ليس تفصيلا بسيطًا، أو أمرًا سهلا، سيما بالنظر إلى التفوق الهائل للجيش الإسرائيلي، على عشرات من المقاومين بأسلحتهم الفردية. بيد أن الموضوعية، والمسؤولية، تقتضيان وضع ذلك الفوز الذي سطره المقاومون البواسل، ببطولاتهم، وشجاعتهم، في مكانه الصحيح، من دون مبالغات تضر، أكثر مما تنفع، إذ لم تستطع إسرائيل تنفيذ ما أعلنته لدى اقتحامها المخيم، عن القضاء على المقاومين، وفرض الاستسلام على المخيم، فقط، أما هزيمة إسرائيل فتلك شأن آخر. بديهي أن من ينتظر انتصارًا خالصًا أو إنجازًا كاملاً ضد إسرائيل، لن يجده في المدى المنظور، لأن ذلك يحتاج إلى تضافر عوامل عديدة، ضمنها وحدة الفلسطينيين، وقوة كياناتهم السياسية، وسلامة إجماعاتهم الوطنية، مع حد من توازن القوى ولو نسبي، وضمنه بيئة عربية حاضنة، وبيئة أو معطيات دولية مناسبة، سيما أننا نتحدث عن إسرائيل التي لديها – عدا عن ترسانتها العسكرية – احتكارها للسلاح النووي في المنطقة، وضمان الدول الغربية لأمنها واستقرارها وتفوقها. هكذا فإن إدراكاتنا للصراع مع إسرائيل ينبغي أن تتأسَّس على وعي تلك الحقائق للعمل على تغييرها أو تجاوزها، خاصة أن الشعب الفلسطيني يفتقر الإمكانيات المادية، ويكابد قيود الاحتلال، فضلا عن أنه يعاني التمزق ويخضع لظروف متباينة، ويواجه دولة صممت لمواجهة عدة دول عربية في الوقت ذاته. من ناحية أخرى، فإن تلك الإدراكات ينبغي أن تنطلق أيضًا من وعي الخبرة التاريخية التي تفيد بأن الشعوب المستعمَرة التي تكافح من أجل التحرر من الاستعمار، لم تحقّق الغلبة على عدوّها بالضربة القاضية وإنما بالنقاط، أي بمراكمة الانتصارات الصغيرة السياسية والعسكرية، ولهذا وسمت نضالات تلك الشعوب بأنها طويلة الأمد. إن خبرة الكفاح الشعبي ضد الاستعمار تفيد بضرورة تجنيب الشعب مواجهة جيش المستعمِر المدجّج بالسلاح، بالاشتغال على اختيار أشكال نضالية، بحسب الظروف والإمكانيات، وضمنه الاشتغال على تحييد نقاط قوته، ومصارعة مواطن ضعفه، واستنزافه وإرهاقه، بانتهاج واعٍ لإستراتيجية حرب الضعيف ضد القوي، وباستخدام مختلف أشكال النضال الممكنة والمتاحة والمناسبة، مما يمكنها من رفع كلفة احتلاله، وإثارة التناقضات في مجتمعه، ونزع الشرعية الأخلاقية والقانونية والسياسية عن سياساته ومواقفه في المعركة على الرأي العام العالمي. والمعنى أن الأساس في المقاومة هو تمكين مقاومة الشعب، وليس مجموعة من الشعب، والأساس في انتهاج شكل معين هو استنزاف مجتمع العدو، وليس تمكين العدو من استنزاف المجتمع المستعمَر. إن وعينا لتلك الحقائق هو الذي يمكننا من وضع الإنجازات المتحققة – في صد الاعتداءات الإسرائيلية، وفي تعزيز مكانة فلسطين على الصعيد الدولي – في إطارها الصحيح والمناسب، ضمن إطار العملية الوطنية الفلسطينية الطويلة والمعقدة، دون أن نبخس أيا منهما قدره، وأيضا دون المبالغة بقدرهما. ففي المعركة العسكرية في مخيم جنين، وقبلها في قطاع غزة، ما كان يمكن توقع هزيمة الجيش الإسرائيلي دفعة واحدة، فهذه مهمة أكبر من قدرة المقاومة الفلسطينية المسلحة، وأكبر من قدرة الفلسطينيين الذين يخضعون للاحتلال، فإسرائيل هي التي تملك الطائرات والدبابات والمدفعية وقوة النيران والدعم اللامحدود من الدول الكبرى لضمان أمنها وتفوقها. معنى ذلك، مجددًا، أن مجرد صمود المقاومة، وعدم التسهيل على العدو اقتحاماته، ونقل المعركة إلى أرض العدو، إن أمكن، هو إنجاز غاية في الأهمية، وخطوة على صعيد تغيير معادلات الصراع العسكرية، وهو تطور غرَس عميقًا في الوعي الإسرائيلي مفهومَ أن ثمة ثمنا للاحتلال والعدوان. أيضاً، ففي المعركة على مكانة فلسطين في العالم، لا يمكن التوقع أن ينقلب العالم دفعة واحدة لتبني حقوق الفلسطينيين وتجسيد أحلامهم، فما حصل – رغم أنه مجحف وناقص وجزئي – يشكل ربحًا بالقياس إلى تآكل مكانة إسرائيل على الصعيد العالمي، وانكشاف صورتها باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية ودينية وتسلطية في الشرق الأوسط. وبهذا المعنى ففي سياساتها الاستعمارية والعنصرية وفي اعتداءات جيشها ومستوطنيها خسرت إسرائيل كثيرًا، خسرت مكانة الضحية الأثيرة لديها والتي كانت تبتز العالم بها طوال العقود الماضية، كما خسرت مكانتها على الديمقراطية الوحيدة في المنطقة. فوق ذلك فإن هذا التطور يكسر ركيزة أساسية من ركائز الفكرة الصهيونية التي تأسست على نفي وجود الفلسطينيين كشعب، وها هو الشعب الفلسطيني يحضر من الغياب ويفرض ذاته، كشعب واحد، وكقضية واحدة، من النهر إلى البحر. من ذلك نتبيّن أن هبات الفلسطينيين الشعبية، وصمودهم، وعملياتهم المسلحة ضد الجنود والمستوطنين المحتلين، غرست نفسها عميقًا في وعي الإسرائيليين، فثمة خسارة قد لا ترقى إلى مستوى الهزيمة التاريخية، لكنها خسارة محسوسة في المعركة على وعي الإسرائيليين، وعلى مكانة إسرائيل، وكشف صورتها أمام العالم باعتبارها مجرد دولة عدوانية، واستعمارية، وعنصرية، ودينية. أما في شأن تحقيق أكثر من ذلك فهو يتطلب من الفلسطينيين ترتيب أوضاعهم واستنهاض قواهم، كما يحتاج إلى مزيد من التغيرات في البيئة السياسية العربية والدولية. الانتصار هو أمل حياة كل فلسطيني، مهما كان هواه، أو مرجعياته، بيد أن إسرائيل لا تحتاج سوى إلى هزيمة واحدة، وبعدها ستذهب إلى الأفول، بمعنى أن أي انتصار حقيقي على إسرائيل، هو بداية نهاية هذه الدولة الاستعمارية الاستيطانية العنصرية المصطنعة·
مشاركة :