الجدل الذي لم تنقطع حيويته من جهتي مع جابر عصفور، رحمه الله، كان حول مقولة «نقد النقد» من جهته ومقولة «الناقد منقوداً» من جهتي، ومقولة «نقد النقد» هي المقولة المركزية التي تفسر مشروع جابر عصفور البحثي وتصبغه بصبغته المعرفية الفارقة، وأعماله كلها تتأسس بناء على مفهوم نقد النقد وبمقدار ما ينتج من معرفةٍ ويؤسس لخطاب نقدي، فهو يحقق في الوقت ذاته مواجهة ناقدة للخطابات النقدية ويدخل في جدلياتها بحثاً أو مناقشة أو محاورة، وحضوره المباشر في أي حدث علمي ينطلق من حالته الذهنية الملازمة له في أن يظل ناقداً للنقد، وهذه خاصية عميقة في تكوينه العلمي وفي تكوينه الشخصي والتفاعلي، وفي علاقتي العلمية معه كنا في جدلية مستمرة بما أني أطرح مقولة (الناقد منقوداً)، وهي مقولة تختلف وظيفياً عن مقولة (نقد النقد) ذلك أن من أساسيات النقد الثقافي مواجهة المركزية الذاتية، أي مركزية الفحل الثقافي التي تُنتج تبعاً لذلك الفحل الاجتماعي والفحل السياسي حسب نسقية (الشعرنة)، كما سميتها في كتابي النقد الثقافي، ومن هنا، فإن الناقد نفسه يجنح لأن يكون فحلاً ثقافياً بما أنه يمارس نقد الخطابات من مركز متعالٍ عليها نتيجةً لكونه ناقداً لها، ومن ثم يضعها في موضع الخاضعة له ولسلطته. وهذا يوقع الناقد بحس التعالي على المنقود مقابل الحصانة من أن يكون هو منقوداً، وهذا يستوجب إخضاع الناقد نفسه ليكون هو أيضاً منقوداً من باب العدالة المنهجية، ومن باب تحويله إلى ذات منقودة، وهذه نظرية كانت تحكم جانباً مهما من حواراتي مع جابر عصفور، وإذا لم نعمل مقولة «الناقد منقوداً»، فسيتحول جابر عصفور نفسه ليصبح فحلاً ثقافياً ويقع في النسقية، وهكذا كان افتراضي المعرفي النقدي، وهو مصدر الخلاف المعرفي بيننا حيث يركز هو على نقد النقد، بينما نحتاج لتكملة ذلك بجعل الناقد منقوداً بوصف الناقد سلطةً ذاتيةً ولا يمكن تحرير خطابه من روح السلطوية ما لم نخضعه للنقد كذات فاعلة وموجهة للخطاب، ومن ثم هي ذات نسقية دون خيار أو وعي منها واعتراض الدكتور جابر عصفور على قولي جاء من باب مقولة (موت المؤلف)، وهي المقولة التي تقول بعزل سلطة المؤلف عن نصه وتجعل النص لقارئه وليس لقائله وأنا اعتمدها في قراءاتي النقدية مما يعني أني أناقض نفسي حين أقول أيضاً بـ«الناقد منقوداً»، غير أن وجهة نظري تعتمد فكرة المؤلف المزدوج وهي الفكرة التي ترى أن لأي خطاب مؤلفين هما المؤلف الواقعي وهو الذي يجب أن نعمل عليه فكرة (موت المؤلف)، أما المؤلف الآخر، فهو الثقافة وهو المؤلف المزدوج المصاحب للمؤلف الفعلي، وهو مصدر النسقية. ووجود النسق مضمراً في النص يقتضي تشريح النص وكشف نسقياته التي ستكشف عن سلطوية الذات الفحولية المختبئة تحت الخطاب وفي تلافيفه، وهذا هو نسق الشعرنة الذي أعمد لكشفه وكشف مضمراتنا معه وهي مضمرات نسقية تأتي من رحم الثقافة وتظل فاعلةً وموجهةً للمؤلف نفسه ولكل من استهلك النص في أي قراءة عقلانية كانت أو وجدانية، مما يؤدي إلى ديمومة الأنساق وتوليدها واستدامتها، على أن جابر ظل يرى أن نقد النقد هو الهدف الذي يتسق مع رؤيته لوظيفة النظرية النقدية، ولكنه مع هذا ظل ينظر لمشروع النقد الثقافي باحترام يليق باختلاف العلماء ولا شك أني بادلته الموقف ذاته تقديراً لعلمه وتأكيداً لعمق دوره ومنجزه. وهي حوارات لما تزل حية في ذاكرتي وتميز مقامه، رحمه الله، في عقلي وفي وجداني.
مشاركة :