جمعية الفلسفة تقرأ الغموض التاريخي عند السويداء

  • 7/18/2023
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

أقامت جمعية الفلسفة السعودية مؤخراً محاضرة بعنوان "عبدالرحمن السويداء والغموض التاريخي"، قدمها طريف السليطي وأدار المحاضرة عيد الجهني. وأوضح السليطي في بداية محاضرته أن الغموض هو دافع أساسي للمعرفة بوجهها العام، فالتساؤل هو الذي يوّلد الحافز نحو العثور على الإجابة، ثم ينجم عن ذلك مرور الباحث بالكثير من العراقيل أثناء السعي الحثيث لتحصيل الجواب. وهذا سبب ظهور المنهج العلمي: أن يلتزم الباحث بالطريقة المنظمة في سعيه لإيجاد الجواب على السؤال، فالعلم هو (تراكمية) و(تنظيم) و(بحث عن الأسباب) و(دقة) والمحصلة هي (يقين) لكن الأمر لا يتم بسلاسة على الدوام، فبخلاف المعرفة العلمية لا تبلغ المعرفة الفلسفية هذا اليقين بما في ذلك الكثير من القضايا التاريخية والمصيرية التي يجد فيها الباحث نفسه قد وقع في "شراك" الغموض والذي كلما اشتد ضبابه صعبت رؤية المشهد من ورائه. لا تثني هذه الصعوبة المؤلف الجاد عن هدفه، فحتى وإن أدرك أن الشخوص رحلوا، والأحداث اندثرت، والمعالم اندرست، سيبقى وفياً لمنهجه و"طريقته" واستقصاءاته، وسيُبدي التزاماً أصيلاً بتتبع الحقيقة. وأضاف: "إن الشعور بالغموض أمر بالغ الأهمية للباحث، والقارئ، والمؤلف -على حد سواء- وأن نتحلى بالشجاعة في مواجهته ولا نتحاشاه، وتكمن ضرورة الغموض للإنسان أنه المقابل للجلاء، ولو افترضنا أن كل شيء بات واضحاً ولا يحتاج منا التأمل والتفكير لوجدنا أنفسنا في العراء، ولعل هذا هو ما يحدث حاليًا، حيث النزعات الوثوقية والدوغمائية تنتشر لدى المتعلم والعامي جراء الثقة الزائفة بمعرفة كل أمر، ولا يقتصر ذلك على الجانب المعرفي إذ يتعداه نحو الجانب النفسي، حيث تنعكس هذه الثقة المفرطة التي تسببت بها العلموية على نفوس الناس. ويختفي الاحتفاء بالغموض لديهم؛ مع أن الغموض هو دومًا مصدر الإلهام والتأمل والبحث في أعماقنا الداخلية، فلطالما تأمل الأنبياء والحُكماء في الكهوف متوجين بممالك الصمت". وتابع السليطي: "ما يجعل من مهمة المؤرخ مسألة في غاية الصعوبة ويحيطها الغموض مع كل جانب، أنه يبحث عن الوثائق ويعمل على شرحها ووضعها في إطارها الزمني، ويستوثق من محتواها وحقيقة ما تنطوي عليه من بيانات، ويبحث في الأحداث وميقات وقوعها والتأكد من الروايات حيالها، ويُعمل حسه الحذر تجاه الروايات المكتوبة والشفوية لئلا يسقط في فخ التحيز وما يشتمل عليه من خطورة قد تقلب مسار الأحداث وتزييفها، وفوق ذلك كله أن يدرك المؤرخ المسؤولية الجسيمة حين تتحول مادته المكتوبة إلى شهادة تاريخية، وتصبح وثيقة مرجعية بمرور الزمن وتطاول الأجيال". وختم الباحث طريف السليطي: "إن ما بذله الأستاذ عبدالرحمن السويداء في كتابه (الألف سنة الغامضة من تاريخ نجد) وسائر مؤلفاته الأخرى لهو جهد يُثمن له ويدل على حرص يندر وجوده، فعلاقتنا بالتاريخ والتراث يسودها الاضطراب إذا ما اكتنفها ضباب الغموض. تأتي أهمية هذه الجهود في التأسيس لسردية تاريخية يمتاح منها المثقف والمبدع وتشكل له الأرضية المستقرة في النظر إلى كيانه التاريخي وطبيعته الجغرافية وهويته الثقافية. ولا شك أن العلاقة المثمرة مع التاريخ ليست علاقة تعصب وانتماء أعمى فهذا ما حذر منه السويداء مراراً في كتاباته ونهى عن سلبيات الماضي بما فيه من حروب وآفات وانقسامات عنصرية لا مبرر لها، ومن جهة أخرى فإن العلاقة المثمرة تنظر لهذا الماضي نظرة منصفة وواسعة النطاق تشمل التحديق في التفاصيل الحية للشعوب التي سبقتنا واستنطاق قصصها وشخوصها، وتأويل ما اضطرب من الشهادات المتعلقة بها، والالتزام بالحياد –رغم صعوبته في كثير من الأحيان- أثناء الكتابة عنها ومعالجتها. والتطلع إلى المستقبل من خلال التسلح بالعلوم والمعارف والتقنيات الضرورية، والابتعاد عن العصبية الفئوية والقبلية والاعتداد بالماضي المشرف وحده. واشتملت رحلة السويداء في توثيق منطقة نجد على مصاعب جمة منها تبعثر المصادر وعدم وجود مؤلفات في تراثنا توثق ما تَلاحق من الأحداث والخطوب الجسام في منطقة نجد، فجاء كتابه ليسد ثغرة واسعة في المكتبة المحلية والعربية في هذا الباب، ويمنح الفرصة للأجيال القادمة أن تتعرف على حقيقة بيئتها وحسنات ما مضى من الزمن للانتفاع به وسيئات ما وقع لاتقاء شره. والأهم من هذا كله أن الإنسان بلا هوية تاريخية ولا انتماء ولا إدراك لماضيه هو كالهباءة الصغيرة في العراء يحلق مع أدنى هبة فيضيع كيانه و" ينتحر" ثقافياً بحسب وصف زكي نجيب محمود المعبّر. وهوية نجد والجزيرة العربية بالمجمل، بكافة أقاليمها وقبائلها وعوائلها، لم تكن بمعزل عن التأثر بالآخر لا سيما في الشؤون العملية وما يرتبط بها من اكتساب الخبرات والاتجار بالبضائع والأمور النفعية، لكنها كانت متحفظة على أشد ما يكون التحفظ حين يتعلق الأمر بعقيدتها أو عاداتها وطباعها الموروثة. من هنا كان لزاماً أن تتحقق معادلة ثقافية - اجتماعية - نهضوية تتمثل في معرفة الماضي وإنشاء سردية واضحة عنه، تعزز الانتماء لهذا الماضي وتتصالح معه، وتنطلق بنظرتها نحو المستقبل وهي واثقة أن جذور هويتها العميقة تضرب في جران الأرض، فتدرك مسبقاً أن الماضي ليس للتكرار أو إعادة محاكاته وإنتاجه وإنما أن تؤخذ (صورة) الاجتهاد دون مادته المتقادمة. فلم يعد البشر يستخدمون السيوف والمعاول في الحرب وإنما الصواريخ والطائرات، ولم تعد الكتاتيب وألواح الخشب تستخدم في التعليم وإنما الغرف المكيفة والتقنيات الرقمية، ولم يعد الراوي حكيماً يعيش بمفرده إذ تدخلت التقنية وشاع الذكاء الصناعي وأصبحت المعرفة متاحة للجميع (وهذا مصدر الخطر والأمان معاً) في مفارقة عجيبة. وما من شك أن النهضة العمرانية والاجتماعية والثقافية التي تحققت في السنوات الأخيرة في ظل رعاية الدولة ورؤاها الطموحة قد واكبت الكثير من المستجدات العصرية، وعانقت مشارف السماء في مطامحها ومنجزاتها، واهتمت في الوقت نفسه بالتراث والمتاحف والتثاقف مع المجتمعات الأخرى، وهو ما سيفتح بإذن الله صفحة جديدة ومشرقة من التاريخ.

مشاركة :