تباينت ردود الأفعال حول ما أعلنته منظمة الأمم المتحدة في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 أن عدد سكان العالم قد تخطى حاجز 8 مليارات نسمة، ففريق رأوا الرقم انتصارا للتنمية البشرية، وآخرون رأوه تهديدا وانفجارا سكانيا، لكن هذا الرقم الهائل يلخص رحلة التطور البشري عبر آلاف السنين، اختلفت تفاصيلها من آن إلى آخر، كما يمثل ترجمة رقميةللتفاعل بين الديموغرافيا ومسيرة التنمية عبر مختلف العصور. وهذه الدارسة "المليارية الثامنة.. كيف تشكل التحولات الديمغرافية مستقبل العالم" الصادرة أخيرا عن مركز إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية بأبوظبي تتبع الخريطة الديموغرافية التي شهدت تغيرا دراماتيكيا خلال رحلة التطور البشري عبر آلاف السنين،من حيث وتيرة التسارع الديموغرافي، وتعدد الأسباب المحركة للنمو السكاني، وطبيعة الانتشار الجغرافي للسكان، واختلاف تفاصيل التركيبة السكانية، وغيرها من العوامل للنمو السكاني، وطبيعة الانتشار الجغرافي للسكان، واختلاف تفاصيل التركيبة السكانية، وغيرها من العوامل مثلت أحيانا فرصا ديموغرافية استطاعت الدول استغلالها في تعزيز مسيرتها التنموية، وأحيانا أخرى مثلت تحديا كبيرا أمام الدول واقتصاداتها، كارتفاع نسب الشيخوخة، وتزايد النزوح إلى الحضر، فضلا عما مثلته بعض الظواهر من فرص وتحديات في آن واحد بشكل يتوقف علىطريقة إدارتها وحسن تطويعها، كالبروز الشبابي والهجرة الدولية. اشتغلت الدراسة على خمسة محاور الأول ملامح عامة لمسيرة التطور السكاني، والثاني الاتجاهات الديموغرافية الصاعدة في العالم، والثالث تحديات التطور السكاني العالمي، الرابع ارتباط الديموغرافيا بالصراعات الدولية، والخامس سيناريوهات مستقبل الديموغرافيا العالمية، وهذا الأخير ما نتوقف عنده خاصة أن التغيرات الديموغرافية الأخيرة تمثل في مضمونها تحديا أمام تحقيق أهداف التنمية المستدامة. انطلاقا من محدودية الموارد أمام التزايد المستمر للسكان فيما يعرف بالفخ الديموغرافي، فضلا عن مخاطر البروز الشبابي التي تتزايد في الدول النامية، ومخاطر صراع الأجيال، ومشكالت الهجرة، التي تتزايد في الدول الأوروبية، كما كان للديموغرافيا باع طويل في تشكيل بيئة الصراعات العالمية وتحفيزها؛ فالنمو السكاني والتحضر السريع والبروز الشبابي من أبرز العوامل المحفزة للصراعات، كما أن الصراع على الموارد قد يصبح تمطا سائدا في ظل تحديات الموارد، فضلا عن تباين مصادر القوة الوطنية بين الدول من حيث الاعتماد على رأس المالأو العنصر البشري. أول سيناريوهات مستقبل الديموغرافيا العالمية يتمثل في اقتراب الإنسانية من مرحلة الذروة، حيث يشير أحدث توقعات الأمم المتحدة إلى أن عدد سكان العالم يمكن أن ينمو إلى نحو 8.5 مليار في عام 2030 و9.7 مليار في عام 2050 قبل أن يصل إلى ذروته عند نحو 10.4 مليار شخص خلال عام 2080 ومن المتوقع أن يظل عدد السكانعند هذا المستوى أو أن يقل عنه بحلول عام 2100. ومن المتوقع أن تصل كل من أوروبا وأميركا الشمالية إلى ذروتها من حيث حجم السكان قبل عام 2038؛ بسبب استمرار انخفاض مستويات الخصوبة التي كانت أقل من ولادتين لكل سيدة منذ منتصف التسعينيات، كما أن من المتوقع أن يصل عدد سكان وسط وجنوب آسيا إلى ذروته في عام 2072 كما أن أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي ستصل إلى ذروتها تقريبا خال عام 2056. ومما يعزز هذه السيناريوهات النمو المتباطئ الذي يشهده عدد سكان العالم؛ حيث ينمو العالم بأبطأ معدل له منذ عام 1950، كما شهدت معدلات الخصوبة انخفاضا بشكل ملحوظ في العقود الأخيرة بالنسبة إلى العديد من البلدان؛ حيث يعيش اليوم ثلثا سكان العالم في بلد أو منطقة تقل فيها معدلات الخصوبة مدى الحياة عن 2.1 مولود لكل امرأة، وهو المستوى المطلوب تقريبا لتحقيق نمو صفري على المدى الطويل، مع انخفاض معدل الوفيات، كما أن هناك 61 دولة أو منطقة، من المتوقع أن ينخفض عدد سكانها بنسبة %1 على الأقل خلال العقود الثلاثة القادمة؛ نتيجة لاستمرار انخفاض مستويات الخصوبة وارتفاع معدلات الهجرة في بعض الحالات. السيناريو الثاني يتمثل في تزايد التركز الجغرافي لنمو السكان، حيث من المتوقع وفقا للدراسة أن يتركز أكثر من نصف الزيادة المتوقعة في عدد سكان العالم حتى عام 2050 في ثمانية بلدان فقط هي:جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومصر، وإثيوبيا، والهند، ونيجيريا، وباكستان، والفلبين، وتنزانيا، كما أن من المتوقع أنيحدث أكثر من نصف النمو السكاني العالمي حتى عام 2050 في أفريقيا، محققة أعلى معدل نمو سكاني في المناطقالرئيسية. كما يتوقع أن يتضاعف عدد سكان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بحلول عام 2050 ومما يعزز هذا السيناريو، تضخم عدد الشباب الموجودين في القارة في الوقت الحاضر، وهم من يتوقع وصولهم سن البلوغ في السنوات المقبلة وتعرضهم للزواج والإنجاب ما يعزز دور القارة في تشكيل حجم سكان العالم وتوزيعهم على مدى العقود المقبلة. كما ستبقى الصين والهند أكثر دولتين اكتظاظا في العالم مع أكثر من مليار شخص، وتمثل كلتاهما نحو %18 من سكانالعالم. ومع حلول عام 2023 ، يتوقع أن تتجاوز الهند الصين لتصبح أكبر بلدان العالم سكانا، في حين يتوقع أن ينخفض عدد سكان الصين بنسبة %2.7 بين عامي 2019 و2050. ويرجح السيناريو الثالث شراسة المنافسة على العمالة وأصحاب المواهب، أن تؤدي التغيرات الديموغرافية إلى اشتداد المنافسة العالمية على اجتذاب العمال وأصحاب المواهب؛ حيثإن معظم البلدان الغنية ستشهد انخفاضا كبيرا في نسبة الشباب بسن العمل، في مقابل استمرار زيادة نسب الشيخوخة بين السكان، فمثلا ستواجه إيطاليا انخفاضا في عدد سكانها إلى النصف تقريبا خلال عام 2100 مع زيادة نسبة الشيخوخة بها من %24 إلى %38 من عدد السكان، كما شهدت المكسيك انخفاضا في معدل الخصوبة الذي وصل تقريبا إلى مستوى الإحلال، ومن ثم ستحتاج هذه البلدان إلى عمالة أجنبية تحافظ على نمو اقتصاداتها، والوفاء بالتزاماتها الاجتماعية تجاه المواطنين الأكبر سنا، ومن ثم ستكون المنافسة على العمالة الماهرة بين البلدان الغنية والمتوسطة الدخل التي ستشهد انخفاضافي أعداد سكانها مستقبلا. ولعل تجربة أميركا في استقطاب المواهب خير دليل على ذلك؛ فما يقرب من %40 من العلماء الأميركيين هم من المهاجرين، وكذلك ثلث أطبائها وجراحيها، وأكثر من ثلثي العاملين في التكنولوجيا الخاصة ولدوا في الخارج، لا سيما الصين والهند. كما أنه من المتوقع أن تفرض حدة المنافسة على المواهب ظهور اتجاه جديد يتمثل فياستقطاب المواهب منذ الصغرفي مراحل المدارس أو الجامعة. ومن المتوقع أن تصبح الهجرة الدولية مكونا رئيسي اللتغير السكاني، لتصبح المحرك الوحيد للنمو السكاني في البلدان ذات الدخل المرتفع، ومن ثم تصبح محركا أساسيا وقوة دافعة رئيسية لتحقيق الرخاء والتنمية إذا ما أديرت بشكل سليم. وبحذر السيناريو الرابع من انتكاسة متوقعة لأهداف التنمية المستدامة، فوفقا لتقرير التوقعات السكانية2022 فإن 46 دولة من البلدان الأقل نموا ستشهد أسرع معدلات نمو سكاني بالعالم؛ ما يفرض ضغوطا كبيرة على الموارد ويفرض تحديات على تحقيق أهداف التنمية المستدامة. كما يتوقع أن تتزايد أعداد من يعانون من الجوع في العالم في ضوء الزيادة السكانية، خاصة أن منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" أفادت بأن عدد السكان الذين يعانون الجوع في العالم قد ارتفع إلى 828 مليونا في نهاية العام الماضي؛ أي بزياد ةقدرها 46 مليونا عن عام 2021 بعد أن كان قد ارتفع 150 مليونا منذ ظهور الجائحة؛ ما يعني أن العالم يبتعد أكثر فأكثرعن الهدف الذي حدده منذ سنوات بالقضاء على الجوع وسوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي بحلول عام 2030. ومن المتوقع أن يظل نحو 670 مليون شخص "8% من سكان العالم" يعانون من الجوع في عام 2030 حتى لو حدثانتعاش اقتصادي عالمي. وهذا العدد مماثل لذلك المسجل في عام 2015 عندما تم إطلاق هدف القضاء على الجوع وانعدامالأمن الغذائي وسوء التغذية بحلول نهاية هذا العقد في إطار خطة التنمية المستدامة لعام 2030. السيناريو الخامس والأخير يتوقف عند الصين لافتا إلى أنه وفقا لما أعلنه المكتب الوطني للإحصاء في الصين، فقد انخفض عدد السكان بنحو 850 ألف شخص خال عام 2022 وهو أول انخفاض منذ عام 1961؛ العام األخير لمجاعة الصين الكبرى؛ أي منذ نحو 60 عاما، ً وهو تحول تاريخي من المتوقع أن يمثل بداية فترة طويلة من التراجع في أعداد المواطنين؛ ما قد يفرض تداعيات كبيرة على الاقتصاد الصيني، بل العالمي أيضا، ومن المقرر أن تصبح األزمة أكثر بروزا في الصين مع حدوث موجة وشيكة من حالات التقاعد؛ إذ من المقرر أن تتقلص القوة العاملة بنسبة 9% خلال العقد المقبل.فمن المرجح أن تؤدي التغيرات الديموغرافية إلى فقدان رأس المال البشري، ومن ثم يقل عدد رواد الأعمال والمبتكرين والعمالة الماهرة، فضلا عن انكماش حجم السوق الصينية، وكذلك التشكيك في السياسات الحكومية، وربما تفضي الأزمة الديموغرافية إلى حدوث اختلالات جيوسياسية واقتصادية عالمية؛ فقد تؤدي الأزمة الديموغرافية في النهاية إلى التأثير على النظام العالمي الحالي؛ فهناك مخاوف عديدة بشأن التدهور الاقتصادي الصيني؛ ما قد يمثل مشكلة محتملة لبقية العالم، بالنظرإلى الدور الرئيسي للصين باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد عالميا. وتخلص الدراسة إلى عامل الديموغرافيا - بتفاعلاته المؤثرة، أصبح عاملا حاسما في العالم، لا يمكن لأي حكومة من حكومات العالم تجاهله، بل من الأحرى أن تتصدر القضايا الديموغرافية أجندات صناع القرار خلال الفترة القادمة. ومن المحتمل أن يجد علماء الديموغرافيا أنفسهم أمام نماذج ديموغرافية جديدة تنجم عن السياسات المختلفة بالبلدان، فضلا عن إمكانية بروز ظواهر جديدة ديموغرافية يمكن أن تنجم عن هذه المسيرة، ولا سيما أننا ننتظر التفلاعات الجديدة مع مسيرة التطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي، وكذلك مع التغيرات المناخية بالعالم وتأثيراتها المتنامية.
مشاركة :