«استغماية» .. قليل من الحضور وكثير من الاختباء

  • 10/18/2023
  • 23:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لا تنتهي المشكلات الناتجة عن الأزمات النفسية والاجتماعية المخبأة خلف نوافذ المنازل بمجرد الحديث عنها، لكن هذا لا يمنع أن طرحها والبحث عن أجوبة لأسئلة تحاكي النتائج السلبية للشرخ الأسري وتأثيره المباشر في الأطفال ومستقبلهم، أمر مهم وأساس في عالم بات فيه التكامل الأسري من أندر مواصفاته. كاميليا حسين كاتبة مصرية، تحمل شيئا من ذاتها، ربما من ذكرياتها الخاصة والعامة، وتحاول أن ترسم في أول تجربة أدبية لها، رواية حملت اسم "استغماية" حقيقة فيها شيء من الخيال وأشياء كثيرة من الواقع، وكأنها تأخذ فصلا أو ربما مشهدا من ذاتها، عايشته في صغرها وترسمه بلغة الكلمة. الرواية الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، لا تروي قصة فتاة عادية، بل تظهر حالة اجتماعية نفسية لفتاة عالقة بين بابين، الأول افتتحت به الرواية، باب بيت مهجور عششت العناكب أعلاه، والثاني تنهي به روايتها، وهو باب يصفع للخروج أو ربما الهروب، وما بين البابين تتصارع البطلة مع ذاكرتها وحفرها، وأبطال آخرين كانوا هنا يشاركونها الحكاية. تترك كاميليا الباب مواربا لماض يملأه الحزن والخوف والعنف، ومستقبل مؤرق لا تعرف ملامحه. تقول بطلة الرواية عن نفسها: "أنا أجيد الاختباء منذ صغري" ويبدو أن تلك الحيلة التي تصحبها معها من فناء الطفولة صارت وسيلتها لفهم العالم وتعقيدات حياتها، لتعيد الرواية بكل تكثيفها، وعبر (80) صفحة تطرح أسئلة متجذرة حول الوحدة والعنف المنزلي وأحلام النساء المجهضة وراء صور نمطية لأدوارهن في المجتمع. الاختباء قد يبدو للبعض الاسم غريبا بعض الشيء، وجميعنا نعرف قوانين لعبة الاستغماية أو الغميضة، وتنجح الكاتبة في توظيف اللعبة بكل تفاصيلها الشعبية لرصد ظاهرة اجتماعية في ظاهرها، نفسية في باطنها، وتتحدث عن فتاة عاشت خوفا منذ نعومة أظافرها، علمها هذا الخوف كيفية إتقان فن الاختباء، كانت تختبئ من والدها عندما كانت طفلة حين أضاعت الكرة البرتقالية بعد أن سمح لها باللعب بها في الخارج، بسبب غريب راوغها واختفى بالكرة، يوم كانت أقصى أحلامها أن تكون مثل غيرها من الأطفال، فتاة تحمل كرة وتلعب بها في الفضاء الواسع من دون قيود وضوابط وقوانين. وكانت تختبئ تحت الفراش حين تدور رحى الخلاف بين والدها وأمها، وينهال الأخير على الوالدة بالضرب بحزام جلد يشبه الثعبان، وكانت تختبئ من ذاتها حين تصادفها تعقيدات البنوة والأمومة، بعد أن أصبحت امرأة. وتستطرد رسما لفعل الاختباء حين ترسم كيف كانت ابنتها تختبئ بدورها تحت المكتب هربا من مشاجرة قد تؤدي إلى عاصفة من الإهانات والضرب والعنف بينها وبين زوجها، وكأنها عاصفة عبرت الأعوام وتخطت الحواجز لتحط رحالها في منزلها بالتحديد. بطلة من دون اسم كاميليا حسين في رواية "استغماية" تكسر المألوف، وتقدم أبطالا من دون أسماء، وتجعل القصة تدور على لسان بطلتها مستخدمة ضمير المتكلم، من دون أن تحدد اسما لهذه البطلة ولا حتى لأي شخصية محورية أو ثانوية في الرواية، وكأنها تريد أن تقول إن كل من يقرأ هذه الرواية هو بطلها أو بطلتها. لجأت إلى الكتابة منذ أن كانت صغيرة، حين كانت ترسم خربشات على جدران غرفتها، وحين نضجت وتعددت تجاربها القاسية في الحياة، اكتشفت الروائية الكامنة في داخلها، وضعت مكتبا لها مواجها للنور، وجلست أمام صفحاتها البيضاء تحاول أن تبدأ من مكان ما، لأن الحلم بفعل الواقع أصبح حقيقة. لهذا لا نعرف ما إذا كانت تصارع من أجل التذكر أو النسيان، فهي تطارد أشباح طفولتها، ومعها أشباح الأمومة، والزوج الغائب، قصص النباتات الذابلة، وحين اختارت مكانا لمكتبها أمام النافذة، كان اختيارا واعيا، لأنها وجدت نفسها تختلس النظر بالمصادفة في البداية وعن قصد فيما بعد، إلى منزل مقابل تسكن فيه طفلة وأمها، كانت تتلصص إلى عالمها فتلتقط إشارات من الطفلة الجارة تحفز خلايا الذاكرة لديها، تستدعي بها لحظات هشة من حياتها، فتجدها تفتح نافذة على حياتها السابقة، تستذكر محطات أليمة وتبدأ بكتابة رواية لشخصيات من دون أسماء. سردية الموتيبقى الموت هو الحاضر الغائب في هذه الرواية، تحاول كاميليا حسين رسمه بطرق مختلفة، من موت والدتها مبكرا بعد صراع مع السرطان إلى موت متعمد بسبب إجهاضها طفلتها الثانية، وصولا إلى جريمة موت والدها، الذي أنهكه العجز وفتك به الزهايمر، عاملته واهتمت به وربما تكون هي من رسمت نهايته بطريقة أقل بؤسا وألما، حين اختارت أن تضاعف جرعة المسكنات في الكانيولا الطبية تحت ضغط تأوهاته الشديدة، ولا نعرف ما إذا كانت متعمدة قتله فعلا أم أنها قتلته في خيالها؟.. هذه المراوغة التي تدخلك فيها الكاتبة تجعلك تصل إلى قناعة واحدة، سواء حدثت الجريمة فهو ذنب يرد على آخر، وإذا لم تحدث فهو توهم يعني عدم القدرة على الغفران، ففي النهاية "لا ضحية كاملة ولا جلاد كامل".. عاشت البطلة أشكالا مختلفة من الموت، حتى نبتاتها وورودها التي تهتم بها بكثير من الحب تتركها بعد فترة وتفضل الموت عليها.. ما زاد من شعورها بعدم الاستقرار والخوف، لهذا كانت تقف دائما أمام خيارين لا ثالث لهما، إما القبول بالأمر الواقع وإما الهروب، لكنها حين اختارت الهروب كان هروبا إلى موت جديد. رواية الجريمة الأدبية "استغماية" هي الرواية الفائزة بجائزة "ورشة أصوات وخطوط" لرواية الجريمة الأدبية التي نظمتها "ستوريتل" للكتب الصوتية في السويد، بالتعاون مع الدار المصرية اللبنانية. وجاء في حيثيات فوزها إشادة بمهارة كاتبتها كاميليا حسين في الحذف، وقدرتها على قول الكثير من خلال القليل من الكلمات، وفوق هذا الإيجاز اللغوي هناك إحكام للبنية، امتلكت كل حريتها في طرح وجهة نظرها في علاقات الأمومة والبنوة التي تحاط في العادة بسياج من القداسة تواضعت عليه مجتمعاتنا. الأبواب والدور والمرأة إن الجدار له معان كثيرة جدا، منها الستر، والحبس، وحجب الأسرار، ومنها أيضا الحدود والفواصل بين البشر والرغبة في عدم التواصل. وحتى المرأة الموجودة داخل النص، شكل آخر من أشكال الجدار، فهي توسع المساحة لكنها لا تزحزح الجدار، توسيع وهمي، إذ يظل الجدار قائما رغم المرأة. تنسحب البطلة من حياتها لحياة تمنتها لامرأة أخرى. وهذا الذكاء في صناعة الحبكة لا يسبب نفورا لدى القارئ بل يتحدى ذكاءه ليكتشف أن الغموض ليس مجانيا بل يهدف للوصول إلى شيء في النهاية. حتى الجريمة المبهمة، تحمل كثيرا من التأويلات، وتضعنا أمام بطلة مأزومة، فلو قتلت والدها، ستكون ضحيته قبل أن يكون ضحيتها، وهذه الصورة من المراوغة في اختيار توصيف مناسب للرواية يعد من النقاط الإيجابية التي ترفع من قيمة الرواية وجوهرها. لم تنجح كاميليا حسين في بناء سرد قصصي مشوق وماتع فحسب، بل لجأت إلى تفاصيل صغيرة شكلت بمجملها إشارات داخل العمل، ومنها فكرة الأبواب والدور المنتشرة على امتداد النص والتي تشير إلى أبعاد كثيرة منها الحبس والاختناق والبعد عن المجتمع، وكذلك فكرة المرأة ولعبة المراقبة التي قامت بها البطلة مع جيرانها في السكن، ما يجعلنا نتساءل هل البطلة هي نفسها أم أن المرأة تجسيد للحياة التي تحلم بها؟ من الأصل ومن الانعكاس؟

مشاركة :