انتشرت صورة مؤخراً لطابور طويل من النساء السعوديات وهن ينتظرن الدخول لمعرض الكتاب المقام حاليا في مدينة الرياض. التعليقات التي وصلتني بعضها يؤكد أن هذا فعل حضاري، وهو كذلك، فالنظام والصبر وعدم التعدي على أسبقية الآخرين هو سلوك حضاري بامتياز، نشاهده في كل مكان يحترم الناس فيه بعضهم البعض. لكن التعليق المهم هو: هل كل هذه الجموع التي تزور المعرض "مولعة: بالقرآءة، وهل نحن فعلا شعب يقرأ؟ أنا مؤمن بأن الكثير من زوار معرض الكتاب مهتمون بالقراءة لكنهم يستطيعون شراء الكتاب من المكتبات، والمهتم بالكتاب لا ينتظر المعارض لشرائها، لكنها فرصة للحديث والحوار مع الآخرين، والذي يظهر لي أن هناك فقراً حقيقياً للحوار المجتمعي حول الثقافة وتبادل الأفكار بالطبع أنا هنا لن أخوض في مسألة كوننا نقرأ أو نتباهى باقتناء الكتب، فهذا الأمر، رغم أهميته، لا يشغل بالي كثيرا لأني مهتم أكثر بالدوافع التي يمكن أن تصنع مجتمعا مثقفا وتبني بيئة مكانية ثقافية، فهل نحن نملك هذه المقومات أم أن معرض الكتاب أظهر بعض المستور وبين بعض "الاختناقات" الثقافية التي نعاني منها ولا نريد أن نتحدث عنها بصراحة؟ هذه الأسئلة علق عليها بعض الزملاء بقولهم، إنه "فقر الترفيه" الذي تعاني منه مدينة الرياض، فهذه المدينة التي يقطنها حوالي 6 ملايين نسمة لا يجد سكانها مجالات للترفيه وممارسة الحياة العامة بشكل طبيعي. معرض الكتاب، على حد قول البعض، هو مجرد فرصة للخروج ومشاهدة الناس، مثل بعض المهرجانات التي تقام هنا وهناك، فهي مجال للالتقاء بالناس أكثر من كونها تعبيرا عن تحول ثقافي مجتمعي حقيقي نحو القراءة. ورغم أن هذا الرأي منحاز ضد المجتمع ونضجه الثقافي، إلا أنه استوقفني كثيرا، فالقضية المكانية مهمة وهي التي تصنع البيئة الثقافية وتعبر عن هويتها المشاهدة. استرجعت عددا من الظواهر الثقافية التي وظفت "ترفيهيا" في مدينة الرياض، أولها: مهرجان الجنادرية الذي يعتبر الأكبر والأهم على المستوى الوطني، فهذا المهرجان يؤمه عدد كبير من الناس، وأغلبهم يهدفون إلى الترفيه أكثر من البرنامج الثقافي المصاحب للمهرجان، والذي يبدو لي أنه لو كان هناك خيارات ترفيهية أخرى في مدينة الرياض لأصبح الإقبال على هذا المهرجان في الحدود الطبيعية. معرض الكتاب كذلك يظهر أن الثقافة أهميتها أقل أمام الترفيه، وقد شعرت بهذا في مهرجان جدة التاريخية وحي البجيري في الدرعية. الناس تبحث عن "فرص" الحياة الطبيعية التي يفترض أن تقدمها المدينة بدلا من أسلوب الحياة الخانق الذي تفرضه المدينة السعودية على سكانها. وأنا هنا على قناعة أن الثقافة تخرج أصلا من ظروف المكان وأسلوب التعامل معه، فالمكان في حد ذاته ليس له معنى دون القيم التي يفرضها المجتمع عليه وبالتالي الصورة العامة للمكان هي انعكاس حقيقي وعفوي لشخصية المجتمع. قناعتي الشخصية هي أن "الترفيه" وممارسة الحياة الطبيعية في المدينة هما جزء لا يتجزأ من الممارسة الثقافية اليومية وهما اللذان يصنعان "الحدث الروائي" في كل بيئة مكانية، إلا أنني أرى أنه من الضروري البدء بتحرير المدينة من قيودها ومن نمطيتها البطيئة والمنغلقة التي تفرض أسلوب حياة متحفظا ومتكررا على جميع الناس. وأنا هنا أتحدث عن مدينة كبيرة مثل الرياض فما بالكم بالمدن الأخرى؟ الفعل الثقافي يبدأ بالتفاعل مع المكان وفك "شفرته" وهذا لا يمكن أن يحدث في بيئة مكانية تشعرك بالعزلة وبأنها تدير ظهرها لك ولا يوجد لديها رغبة في التفاعل معك. فمثلا زائر المدينة السعودية من الخارج لا يمكن أن يتعرف على ثقافة الحياة اليومية للسعوديين من خلال الأماكن العامة ويحتاج أن يعيش فترة طويلة حتى يبدأ في فك شفرتنا الاجتماعية. بالنسبة لي زرت معرض الكتاب وأول شيء لاحظته القيود المكانية المفروضة فهذا مسار للرجال وذاك مسار للنساء لكنهم في النهاية يلتقون داخل المعرض، وذلك بحجة التفتيش، وفي داخل المعرض مدخل للرجال وآخر للنساء لكنهم في النهاية يجتمعون في نفس القاعة. أشعر بقيود تخنق "المصادفة الاجتماعية" و"تشرذم" المكان وتفككه على أساس "جندري"، فهذا التفكيك يجعل العلاقة بين الناس والأمكنة التي يعيشونها "مبتورة" وذات توجه "انعزالي" بحيث إن الصورة تظل دائما غير مكتملة. ربما هذا ما دفع بكثير من الزملاء للتعليق على صورة النساء المصطفات للدخول إلى المعرض على أنها خلل حضري تعاني منه البيئات المكانية بشكل عام في المملكة. بالطبع أنا مؤمن بأن الكثير من زوار معرض الكتاب مهتمون بالقراءة لكنهم يستطيعون شراء الكتاب من المكتبات، والمهتم بالكتاب لا ينتظر المعارض لشرائها، لكنها فرصة للحديث والحوار مع الآخرين، والذي يظهر لي أن هناك فقراً حقيقياً للحوار المجتمعي حول الثقافة وتبادل الأفكار، ولعل هذا ما جعل السعوديين من أكثر الشعوب استخداما لوسائل التواصل الاجتماعي، "تويتر"، على وجه الخصوص، لأنه يوفر مجالات للحوار وتبادل الآراء لا توفرهما مدنهم وبيئاتهم المكانية الفقيرة. هذه الوسائل لا يوجد فيها "تغريدة للرجال وأخرى للنساء" ولا يوجد فيها حواجز تفصل بين الناس وتعزلهم. هذه الظواهر، التي تظهر المعاناة الثقافية المجتمعية ما هي إلا تعبير واضح عن الفشل الحضري والفقر المكاني الذي تعاني منه مدننا التي لم تستطع أن تتجاوز "العقد الاجتماعية" التاريخية وأعادتها بشكل مشوه ومبالغ فيه في بيئة معاصرة لا يمكن أن تتعايش مع تقاليد غير اساسية. وبصورة أكثر تبسيطا، لم نستطع في حقيقة الأمر أن "نخترع تقاليد" جديدة تناسبنا تكون امتدادا للتقاليد التاريخية ونسخا مطورة عنها. هذا المأزق الذي يكرر نفسه بصورة نمطية مثيرة للحزن أحيانا يجعل كل ما نقوم به يراوح مكانه لأننا ببساطة نخطو كل خطوة ونحن نتلفت يمينا وشمالا خوفاً من أن يرانا أحد. وأخيرا يفترض أن يكون معرض الكتاب محركا للتغيير الثقافي المجتمعي، كما يجب أن يدعو "للحرية المكانية" التي لا تتعارض ولا تسيء إلى حرية الآخرين. ولعل مصطلح "الحرية المكانية" غريب نوعاً ما لكنه يستحق التفكير والبحث. فمن أسس الحرية الشخصية، هي حرية استخدام المكان وفق الضوابط المجتمعية التي يجب أن تكون منطقية وعقلانية ولا تنحاز لرأي متطرف ومتعسف يرى الحريات وفق منظوره الشخصي ويفرضه على المجتمع ككل. الكتاب بصفته حاملاً للثقافة يجب أن يكون معرضه مهرجاناً حقيقياً للثقافة لا صورة قاتمة لتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان. لمراسلة الكاتب: malnaim@alriyadh.net
مشاركة :