المثقف العربي مطالب بتجاوز الأسئلة القديمة والخروج من الشعر والروايات | باسم فرات | صحيفة العرب

  • 12/24/2023
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

المصطلحات بطبيعتها مطاطية، قابلة للتأويل، كل بحسب وعيه ونوازعه يعرفها، وبعضها أكثر عرضة للانتهاك إن صح التعبير، لقلة الدراسات والبحوث العلمية القارة في الوعي الجمعي، ومصطلح المثقف، إحداها، ولهذا نجد تضاربا في الآراء، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولكن الغالبية أدرجوا الشعراء والأدباء وأصحاب الشهادات العليا، ضمن هذا المصطلح، وأن ثقافة تأسست على الشعر لا يمكنها إخراج الشعراء وطردهم من جمهورية المثقف، مثلما تجرّأ أفلاطون وأخرجهم من جمهوريته. إن ضمان الشاعر مكانته ومقعده في جمهورية المثقف، وعمق المخيال العربي الذي أفرد للشاعر مساحة كبيرة، ثم توجه عدد كبير من الشعراء المهمين إلى قراءة الرواية، أصاب غالبية الشعراء في مقتل، فهم استأنسوا الأمر بعدهم من المثقفين، من دون أن يجهد غالبيتهم نفسه بالبحث والقراءة والمتابعة خارج نطاق الإبداع ونقده، ونظرياته في أحسن الحالات، وتواطأوا مع المخيال العربي، أعني أنهم يصرون على ألاّ ينافسهم في مكانتهم أحد، مما غذى الأنا لعدد كبير منهم. لو تأملنا الشعراء والأدباء العراقيين في بلدان اللجوء والهجرة، للاحظنا أمرين، عددهم الكبير والذي يصل إلى الآلاف، والأمر الثاني، وكأنهم لا علاقة جادة تربطهم بالمجتمعات الجديدة، فهم لم ينقلوا إلى الثقافة العربية، حقيقة أن الشعر ثانوي، وأن قارئ الإبداع ليس مثقفا، لأن المثقف في الثقافة الغربية من شروطه قراءة الفكر وحفريات المعرفة، لاسيما وأن غالبية الناس تقرأ الروايات، لا أدري أهو تواطؤ، أم خديعة أم مثلما ذكرت، عدم وجود علاقة جادة مع المجتمعات الجديدة ومثقفيها؟ ◙ الشارع العربي، سبق المثقف العربي، مما حدا بالأخير إما أن يلهث خلفه، وبعضهم كان مصدوما، ولكنه جعل الصدمة عاملا محفزا ليراجع نفسه ووعيه وتصوراته، فكان إيجابيا في الاعتراف بفضل الشارع العربي وسبقه هل المثقف لديه موقعه المتقدم في قيادة المجتمع والتغيرات السياسية؟ أم محض أوهام؟ قرأت مرة أن الشاعر محمد مهدي الجواهري، حينما كان يلقي شعره في التظاهرات، فيحمل على الأكتاف، لا يتجرأ الشرطي بضربه، لأنه شاعر، إنما يقوم بضرب الشخص الذي يحمله على كتفيه، وهذه المعلومة لو صحّت، فهي ذات مغزى كبير، توضح مكانة الشاعر الكبيرة في المجتمع، وتصديه للعمل الثوري، ولا أقول السياسي، لأن الشاعر بل المثقف عموما مهموم بمجتمعه ووطنه، ومنظر المثقف العراقي في قيادة التظاهرات، كان مألوفا، بل كان هذا المثقف رائدا في حركة المجتمع، وبفضله خطا العراق خطوات كبيرة وواسعة في التمدن والحداثة، ولا أظن العراق يختلف عن بقية البلدان العربية، لاسيما المتوسطية، مثل مصر ولبنان وسوريا وتونس والجزائر والمغرب. لكن الذي حدث عبر السنوات الخمس الأخيرة، أن الأحداث التي عصفت بمنطقتنا العربية، ليس للمثقف من دور فيها، إن توخينا الدقة، هي صرخة الفقراء والمعدمين والضحايا، الذين كانوا وقودا لحماقات أنظمة زعمت باطلا أنها ثورية، وجاءت من أجل رفاهية العمال والفلاحين والفقراء عموما، والحقيقة أنهم هم الفقراء جاؤوا ليجعلوا خزائن الدولة ملكا شخصيا لهم ولأقاربهم، بعضهم ولاسيما في العراق، كانوا حفاة في طفولتهم، فأثروا ثراء فاحشا، وهم يتبخترون أمام جياع الشعب، أن “الثورة المجيدة” ألبستهم أحذية وملابس داخلية. صرخة ابتدأت بضحية معدم لم يجد سلاحا ليشهره على الحكومة، سوى إشعال النار في جسده، فحركت تلك النار شعوبا تذوقت الذل والمرارات على يد "مجلس قيادة الثورة" و"اللجان الشعبية" و"قيادة الحزب الخالد"، نار أكلت الأخضر واليابس معها، لأن الخراب الذي تسبب به "العقداء الجهلة" ممن حملوا المتخلف من بيئاتهم الأولى، وغبار الثكنات، ليشوّهوا مدنية المنطقة، وخير ما يظهر هذا التشوه في العراق، ولا تحتاج لمعرفة هذا الأمر، إلا لوضع صورتين الأولى التقطت في أربعينات وخمسينات بل وحتى ستينات القرن العشرين، وأخرى التقطت في آخر التسعينات أو بداية العقد الأول من هذا القرن. الشارع العربي، سبق المثقف العربي، مما حدا بالأخير إما أن يلهث خلفه، وبعضهم كان مصدوما، ولكنه جعل الصدمة عاملا محفزا ليراجع نفسه ووعيه وتصوراته، فكان إيجابيا في الاعتراف بفضل الشارع العربي وسبقه، وبعضهم حاول أن يركب الموجة، مثل كل انتهازي، وكفر بالشارع، ووقف ضده وشكك به، وراحت التنظيرات المغلفة برؤية فكرية، غير ناسين مقارنتها بالثورات الكبرى ولاسيما الفرنسية، لكن هؤلاء تناسوا أن عدم ظهور مفكرين ومنظرين يقودون الثورة يرجع إلى خلل في المنظومة المعرفية والأنساق الثقافية لمجتمعنا. الشارع انتفض بعفوية، هذه حقيقة، وخلفها ليست مؤامرات، إنما استبداد الأنظمة الجمهورية الثورية، حتى وصلت الحالة بأن لا شيء يخسره المنتفضون سوى قيودهم، وأما المؤامرة، فحقيقة أخرى ولكنها جاءت تالية على عفوية الشارع، وسببها نوم المثقف في العسل، وطبيعة الأنظمة التي ربطت الأوطان والقومية بأشخاص، وهذا جعل طريق المؤامرة معبدا، وفارغا، لتندفع القوى الأخرى وتشغله، قوى تريد تفتيت عالمنا العربي، وطبقة الانتهازيين تحت الطلب وعشاق السلطة جاهزون حتى لو تفتت الوطن وفرغت موارده تماما. ◙ ما نحتاجه حقا هو إيمان حقيقي بأن سؤال الهوية لا يختلف عن سؤال الرغيف، وسؤال الحرية يجب أن يكون بموازاة الكرامة والعيش اللائق والمتفق مع متطلبات العصر الشارع العربي، قام بكشف النخب الثقافية، في الوقت نفسه الذي انتفض على النخب السياسية الحاكمة، واتضح أن كليهما في حاجة إلى ثورة وإزاحة. لا شك أن انتفاضات الشارع العربي، قد هزت أسئلة الثقافة العربية، وحركت الركود الذي أصاب النخب الثقافية، وما سيل المقالات التي انهمرت علينا، إلا دليل على أثر الشارع العربي على مثقفيه ونخبهم، لكن الثقافة العربية عموما، تعاني من نقص في مراكز البحوث الرصينة، التي ترصد الأسباب وتقترح الإجابات على أسئلة كثيرة، بلا عواطف جياشة، مراكز لم تلتفت يوما لتنوعنا اللغوي والقومي والإثني والديني والمذهبي والعقائدي عموما، فبقيت نخبها تتلقى تاريخنا وجغرافيتنا عبر مؤلفات المستشرقين والرحالة مهما كانت إمكانياتهم التاريخية والجغرافية والإناسية (الأنثروبولوجية) متواضعة، والكثير من هذه الكتب، تحوي مغالطات فادحة، وبعضها وكأنها كتبت لخلط الأوراق أو تقارير للسيطرة. المحاولات بقيت فردية، تؤرق مجموعة من المثقفين، لا يشكلون ثقلا كبيرا، وبعض هؤلاء، مثلما الحال في العراق، أصروا على مواصلة التظاهر كل يوم جمعة، إن كان في ساحة التحرير وسط بغداد، أو في الساحات المهمة في المدن الكبرى، مثلما عليه الحال في ساحة ثورة العشرين في مدينة النجف، وهذه الساحة لها رمزيتها الكبيرة مثلما لساحة التحرير في بغداد رمزيتها. مثقفون يعبرون عن موقف أخلاقي كبير، ولو كان ما يقومون به قد تم قبل ثورة مواقع التواصل الاجتماعي، التي منحت فرصا متساوية للجميع ليظهروا، فكان نصيب المثقفين درجة ثالثة ورابعة وعاشرة أكثر بكثير من النخب الثقافية التي تملك منجزا وهما ثقافيا واضحا ومهما. لست يائسا، لكنني أعتقد أن الوضع العربي عموما والعراقي خصوصا، لا تنقذه التظاهرات الأسبوعية فقط، بل في حاجة إلى هوس يصاب به كل مثقف، وهذا الهوس يتمثل بقراءة إناسية – تاريخية – أخلاقية للمجتمع العربي وتنوعه اللغوي والعرقي والعقائدي، وترك الشعارات القديمة بما فيها أشرفها وهي الدفاع عن حقوق الأقليات، لأن هذا «الدفاع» أولا: كان سلبيا فلم تتم دراسة هذه المجموعات السكانية التي أثرت مجتمعنا العربي وثقافتنا، فبقينا نجهلها حتى برز منها متطرفون وهذا أمر طبيعي، وثانيا: تحول نقد تطرفها بل الحديث عنها بعلمية تختلف عمّا هو سائد، يعد من المحرمات، فالقول على سبيل المثال إن أغلب اليهود والمسيحيين دخلوا العراق بعد بناء الكوفة والبصرة وواسط وبغداد، وإن بعضهم دخل في أثناء الحرب العالمية الأولى ولاسيما المسيحيين السريان، ينظر إليه على أنه إساءة تصدر من “قومجي” “إسلامي” متطرف. ◙ ضمان الشاعر مكانته ومقعده في جمهورية المثقف، وعمق المخيال العربي الذي أفرد للشاعر مساحة كبيرة، ثم توجه عدد كبير من الشعراء المهمين إلى قراءة الرواية، أصاب غالبية الشعراء في مقتل إن الشارع العربي حتى الآن، أسبق وأسرع من النخب الثقافية، في حراكه ومطالباته، وإذا كان المئات من المثقفين شاركوا ويشاركون في الحراك العربي، فإن المؤسسات الثقافية ليس لها حضورها، ولم تنتج على الأقل في العراق، بحوثا تحفر في أسباب الحراك، وطرق الاستفادة منه لمصلحة المجتمع عموما. وكانت الإشاعات عن تخفيض رواتب أساتذة الجامعات، قد كشفت المؤسسة الأكاديمية، فشهدت ساحة التحرير في بغداد، في تظاهراتها الأسبوعية، ولأول مرة حضورا كثيفا للأساتذة الجامعيين، في بادرة سيتذكرها الناس بمرارة، وكأن سلوك الأساتذة الانتهازي عبّر عن أزمة المثقف المؤسساتي، الذي يتنعم برواتب وامتيازات جيدة، ما إن طفت على السطح إشاعة حرمانه من جزء منها، حتى تظاهر معربا عن سخطه، وهو الذي كان عليه أن يساهم في الحراك الشعبي حضورا وندوات، وبحوثا وحفريات معرفية. الحديث عن المؤسسة الأكاديمية العراقية لا يلغي حقيقة نشاط مثقفين أكاديميين، لكن معظم هؤلاء لهم دورهم الثقافي قبل حصولهم على الشهادات العليا التي منحتهم مقاعد في الجامعات العراقية، في حين أن الغالبية وكأن انتفاضات الشارع العربي وأسئلته، لم تجدد أسئلتهم وسؤال الثقافة الأخلاقي لديهم، ولم تهز شجرة الوعي ولم تولد جديدا في السؤال الوجودي. وشارع المتنبي شاهد بعناوين الكتب المطروحة، فليس بينها كتب تتضمن أوراقا لندوات ومؤتمرات عقدتها الجامعات تناقش الهم العراقي وسؤال الهوية. إن خطورة البقاء أسرى لأسئلة قديمة كانت في الستينات والسبعينات صالحة، لكنها لم تعد كذلك بعد الهزات الكبرى التي ضربت المنطقة العربية، من بركان اجتياح الكويت ومرورا بالحادي عشر من سبتمبر 2001 والتاسع من أبريل 2003 وليس انتهاء بالحراك العربي الذي بدأ في تونس، وهو ما يجعلنا ندور في دوامة تسحبنا إلى الماضي وتخرجنا من المستقبل. ما نحتاجه حقا هو إيمان حقيقي بأن سؤال الهوية لا يختلف عن سؤال الرغيف، وسؤال الحرية يجب أن يكون بموازاة الكرامة والعيش اللائق والمتفق مع متطلبات العصر، وأن الاعتراف بالآخر لا يعني تمجيده وتركه أن يكتب تاريخه ويملي شروطه عبر هذا التاريخ، وأننا يجب ألاّ نكتفي بالإيمان أن الدين لله والوطن للجميع، بل في حاجة إلى توضيح أن المذاهب صناعة بشرية، قابلة للنقد والتفكيك مثلها مثل القوميات والهويات والعادات والتقاليد والثقافات عموما. الشارع العربي، قام بكشف النخب الثقافية، في الوقت نفسه الذي انتفض على النخب السياسية الحاكمة، واتضح أن كليهما في حاجة إلى ثورة وإزاحة، الأنظمة في تبادل سلمي للسلطة على أن تتوارى النخب السياسية التي حكمتنا بالنار والحديد ومن تعاون وتواطأ معها، والثقافية عبر تجديد السؤال المعرفي، والحفر عميقا في البنى المعرفية والحوامل الاجتماعية، وفي تفكيك الخطاب الديني والسياسي والثوري.

مشاركة :