شهر رمضان .. شهر الرحمن .. شهر القرآن والإيمان .. شهر الرحمة والغفران . كُلَّمَا حلّ علينا هذا الضيف الكريم لامست أجسادنا نسماته العليلة ، وقفزت في أذهاننا ذكرياته الجميلة . أيام مرّت عبر السنين ، لها في الذاكرة حنين ، عشناها وعاصرناها وشعرنا بها على ثرى مدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم طيبة الطيّبة. تَطَيَّبت بهجرته صلى الله عليه وسلم وسُكنَاه ومرقده ، تعطّر كلُّ شبر في أرضها وكلُّ حِفْنة من ترابها وكلُّ ذرّة من هوائها بخطواته المُباركة وَوَقْع أقدامه الشريفة وَزفِير أنفاسه الطاهرة النفيسة. ازدادت المدينة عِزّا وشرفا عندما فُرض الصيام فيها ، كان ذلك في السنة الثانية من الهجرة الشريفة ، وصام وقام صلى الله عليه وسلم في كل رمضاناته التسع التي عاشها في رحابها فنالت الشرف الذي لم تناله مدينة في الوجود لا قبلها ولا بعدها. أكرمنا الله بسُكنى المدينة نشْتمُّ عَبَقَها ونتلحَّف بِرِدَاء طُهرها وشرفها ونُنْسِج من ذكرياتنا لها خيوطا مُضيئة تُشعل فتيل وجداننا وتبعث بعض الأمل فينا ، بل كُلّ الأمل. كان أهلُ المدينة لهم في هذا الشهر الكريم تجليّات وتداعيات وجماليّات وترتيبات خاصة ، كان يبدأ استعدادهم لاستقبال الشهر الكريم من بداية شهر شعبان. يبدأ الأهالي شراء حاجاته ولوازمه من الأواني النُحاسية والفُخارية : ( الصّاج والمِلْقَاط ، والزبادي والملاعق ، والمغاريف والكاسات ، والمشربيّات ، والأزيار …. ) وكذلك المواد الغذائية : ( الدقيق ، وزيت القَلِي ، وحَبَّ الشُرْبَة ، والدُقَّة ، والأبازير ، والمفرومة ، والجُبنة الحِلوة ، والمهلبيّة ، وقَمَر الدّين ، والألماسيّة ، وشراب التُوت … ). تعوّد الكثير من سُكّان المدينة الإفطار في رمضان في رحاب المسجد النبوي الشريف وبالجوار الكريم . تُنصَب سُفَر الإفطار في كل أرجائه بعد صلاة العصر مباشرة ، عادات توارثتها الأُسَر من الآباء والأجداد ، يجتمع حولَها قبل أذان المغرب حَشْدٌ من الصائمين ، غنيُّهم وفقيرهم كبيرهم وصغيرهم .. في مشهد أَخَوي وإيماني فريد. ويمتد هذا المشهد الجميل إلى صلاة العشاء والتراويح ، يمتلئ المسجد النبوي المُبارك وساحاته وميادينه بالمصّلين والزوّار. من بعد صلاة العصر تزدحم الأسواق والطُرقات لشراء مُستلزمات الفطور : سُوق العيّاشة وسُوق الفاكهة والخان وباب المصري والمناخة وباب المجيدي وصيّادة والعوالي وزقاق الطيّار والتاجوري والسّاحة والخان وباب الكومة وشارع العينيّة والعنبريّة ….. تَسمَع أصوات الباعة ترتفع وتشدو بتلك العبارات الجميلة : ( عبِّي فطُورك ياصائم ، عَبّي سحُورك ياصائم ). تزدحم المخابز لشراء الخُبز والشِّريك من الأفران والمخابز المشهورة والمعروفة في تلك الفترة مثل : فُرن الكعكي ، وشقرون ، وإبراهيم نافع ، وصادق ، ودردوم ، وأبوعنق ، والعُمَري ، ومحمد صلاح ، والأحمدي ، وغيرهم. تتبادل وتَتَهادى العائلات والجيران الأطعمة والمشرُوبات الرمضانية قبل الإفطار في أجواء أُسريّة وأخويّة رائعة تجد الأسرة مُجَهّزة نوعا واحدا أو إثنين من الطعام للإفطار ، بينما تجد المائدة قبل صلاة المغرب مُدجّجة بعدة أصناف من المأكولات طُعمة وهدايا من الأقارب والجيران. أمّا الحارات والأحواش كانت تزهو وتنتعش من أول رمضان تُنصب المراجيح للأطفال ، وينتشر الباعة البُسطاء بعرباتهم المُمتلئة بالتِرمِس والفُول والحُلبَة والبليلة والبسبوسة يجوبون بها الأزقّة والحارات. وفي أواخر شهر رمضان ترى المسجد النبوي الشريف .. يزدحم بالمصلّين والمُعتكفين لاتُقفل أبوابه في العشرة الأخيرة من رمضان إطلاقا قبل أن يصدر الأمر الملكي الكريم في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته بفتح أبواب المسجد النبوي على مدار الساعة ، وقد كان القرار فرحة كبيرة لأهل المدينة وزوّارها والمسلمين قاطبة آنذاك. و كان فضيلة الشيخ الجليل عبدالعزيز بن صالح رحمه الله ومعه ثُلّة من الأئمة الكرام أذكر منهم : الشيخ عبدالمجيد حسن والشيخ الثاني والشيخ الأخضر والشيخ الزاحم والشيخ محمد أيوب وغيرهم يختمُون القرآن الكريم في صلاتي التراويح والتهجّد في ليلة التاسع والعشرين من رمضان. وتبدأ الأسواق ومحلات الملابس تزدحم أكثر في العشرة الأخيرة لشراء كِسوة العيد ، ويشتد الزّحام في البقالات ومتاجر المواد الغذائية وتَنصُب خارج محلاتها البسطات لبيع حلويات ومكسّرات العيد وصدقة الفِطر. وأختم حديثي بذكر تلك العادة الجميلة والنبيلة التي كانت سائدة عند الكثير من الميسورين والقادرين من أهل المدينة الذين كانوا يحرصون على تلمّس إحتياجات أقاربهم وجيرانهم وأصدقائهم وأيضا الفقراء والمحتاجين من الأُسَر والعائلات الذين لا يسألون الناس إلحافًا ويسعون في إيصال الزكاة والصدقات وكسوات العيد لهم في سريّة تامة تجنُّبا من إحراجهم وحفاظا على كرامتهم. هذه لمحات ومشاهد سريعة عن رمضان زمان في المدينة .. ، وعن بعض المظاهر والعادات والتقاليد الجميلة السائدة في تلك الحقبة الزمنية. وكل عام وأنتم بخير. للتواصل مع الكاتب ٠٥٠٥٣٠١٧١٢
مشاركة :