الروبوت آلة عجيبة أقرب ما تكون لعقل آلي لا تؤثر في برمجته العواطف والمشاعر كما يحدث لعقولنا نحن بني الإنسان. بل هو أقرب ما يكون لجهاز حاسب ذي سعة كبرى يُبرمج إلكترونياً ويخضع لقوانين رياضية بحتة لأداء مهام مختلفة بدقة أكثر ومن دون كلل أو ملل. ومع أن الروبوت اختُرِعَ لرفع الكفاءة الإنتاجية لصناعة أي سلعة أو تقديم أي خدمة، فإنه قد يكون، وربما في المستقبل المنظور، تهديداً أكبر من أي تقدم تقني سابق لحرمان العاملين من أعمالهم، على الأقل في الدول الصناعية المتقدمة. فمنذ انطلاق الثورة الصناعية في الجزر البريطانية في الفترة ما بين 1760 و1780 ثم في فرنسا وألمانيا وما جاورهما ما بين 1820 و1860، كان التقدم التقني يؤدي إلى بطالة فئة من المجتمع ويخلق فرصاً أفضل لفئة أخرى. فمكننة صناعة النسيج مثلاً أدت إلى بطالة الحرفيين الذين يغزلون وينسجون بأيديهم، وفي الوقت ذاته أدت مكننة صناعة النسيج ومكننة غير النسيج إلى خلق فرص عمل جديدة للمهندسين والفنيين ومساعديهم. تضررت فئة غير المتعلمين واستفادت كثيراً فئة المتعلمين. وهكذا كان يظن الاقتصاديون، وأشهرهم في هذا المجال أستاذ تاريخ «التحليل» الاقتصادي في جامعة هارفارد المهاجر النمسوي جوزيف شيموبينز. وملخص ما رآه شيموبينز تقنية أو وسيلة إنتاج تزدهر، ثم تأتي تقنية أو وسيلة أخرى فتحل محلها فتبيد الأولى وتسود الأخرى الأحدث وهلمّ جرا. وذكرت مرة في مناسبة سابقة عن تأثير الروبوت في مستوى البطالة، وتحديداً في 25/11/2014 وقلت: «تصور عالماً تقود فيه أجهزة الروبوت السيارات والقطارات والسفن والطائرات بمجرد تحديد الإحداثيات إلى أين وفي أي نقطة يتغير الاتجاه أو الوقوف. وصارت الروبوتات مألوفة في مجالات التصنيع، خصوصاً الصناعات الدقيقة أو التي لا تخلو من بعض الأخطار حينما يؤديها إنسان. وأضحت أفضل وسائل الإنقاذ من الحرائق أو أي عمل في أعماق البحار كالبحث والانتشال». لكن الأمر أكثر خطورة مما جاء في ذلك المقال. فمؤخراً بعث لي الصديق الزميل الدكتور عبدالرحمن الحمد السعيد ملخصاً من نحو 50 صفحة مقتبسة من كتاب كتبه رجل خبير في تصميم أجهزة الكومبيوتر المتقدمة وبرمجياتها يدعى مارتن فورد، عن تهديد تصاعد توظيف أجهزة الروبوتات لمصدر معيشة الناس. يضرب المؤلف مثلاً بأطباء التشخيص الإشعاعي وهم الأطباء الذين يحتاجون إلى أكثر من 12 سنة بعد المرحلة الثانوية، لتأهيلهم لفهم معنى ما تعكسه الصور الإشعاعية بمختلف تقنياتها التي يطلب الأطباء الآخرون أخذها. ويضيف أنه عن قريب ستؤدي الروبوتات المبرمجة نفس ما يؤديه طبيب الأشعة بطريقة موضوعية أكثر دقة وبتكاليف قليلة. ثم يضيف أنه أصبح حقيقة اليوم بأن التقدم الهائل في تصميم وبرمجة الأجهزة الإلكترونية التي يمكن برمجتها لأداء مهمات كان لا يؤديها إلا ذوو المؤهلات العليا من علماء وصيادلة ومحامين بل وصحافيين مهنيين، سيقلل في نهاية المطاف من الحاجة لخدمات الكثيرين منهم. كان التقدم التقني ذا هوية تخصصية، بمعنى أنه يسبب بطالة الكثيرين في قطاع معين، وفي الوقت ذاته يخلق فرصاً إضافية للعمل بنسبة أكبر في قطاع اقتصادي آخر. أما اليوم، فإن التقدم التقني الهائل في قطاع صناعة المعرفة أو المعلومات - إن أمكن إطلاق صفة صناعة - صار يؤسس لأداء مهمات عامة يمكن تطبيقها في كل القطاعات الأخرى، سواء كانت في قطاع الزراعة أم الصناعة أم تقديم الخدمات. والسعوديون والمقيمون معهم من غير السعوديين عرفوا فضل خدمة «أبشر» لأداء خدمات متعددة بسهولة وبسرعة. وربما كانت خدمة «أبشر» أفضل مثال لتعميم تقديم خدمة في نواح كثيرة بمجرد إتقان البرمجة المطلوبة، لتقديم خدمات متعددة ومتنوعة مع أنها مهمة وضرورية بكفاءة عالية. وأصبحت أسماء شركات في صناعة المعرفة كـ «غوغل» و «فايسبوك» كلمات مألوفة في كل بيت وفي كل منشأة، وكأن تأسيسها وتأسيس أمثالها تم منذ مئات السنين وليس منذ بضع عشرة سنة أو أقل لبعضها. ومع ارتفاع رأسمال «غوغل» مثلاً، فإن عدد العاملين فيها ضئيل جداً نسبة إلى رأسمالها. وكذلك الحال بالنسبة إلى «فايسبوك» وبقية أبناء وبنات ثورة الإنترنت وتطبيقاتها. ولو قارنّا شركة كانت تعتبر ضخمة رأس المال مثل «جي. إم» بـ «غوغل»، نجد أنه يعمل في «جي. إم» على مستوى العالم نحو 215 ألف شخص مع أن مجموع قيمة أسهمها في الأسواق المالية لا يتجاوز 48 بليوناً. بينما يصل مجموع قيمة «غوغل» نحو 550 بليوناً ولا يتجاوز عدد العاملين فيها 58 ألفاً. وملخص الموضوع، الروبوتات وبقية تفاصيل تقنية المعرفة سترفع الإنتاج في كل قطاع، وسيكون عدد من تتسبب في بطالتهم أضعاف من تؤمن لهم فرصاً إضافية. وللموضوع بقية. * أكاديمي سعودي.
مشاركة :