جاء الحديث في مقال الأسبوع الماضي (7/6/2016) عن أن تعميم الروبوتات وبقية صناعة المعرفة وتوظيفها في قطاعات اقتصادية كثيرة يختلف جذرياً كماً وكيفاً عن تأثير التطور التقني منذ انطلاق الثورة الصناعية في بريطانيا وشمال غربي أوروبا ومكننة الإنتاج. فسابقاً تزدهر تقنية ثم تأتي تقنية أخرى أفضل وأحدث، فتموت الأولى وتحيا الثانية. أما حالياً فالأمر اختلف. فالتقدم في مجالات صناعة وبرمجة الروبوتات، إضافة إلى بقية أجزاء صناعة المعرفة، لم يعد تخصصياً في قطاع معين من دون آخر، وإنما أمكن حالياً تعميمه تدرجياً في مجالات شتى. يضرب المهندس والمصمم لأجهزة الكومبيوتر والمطور للبرمجة الإلكترونية مارتن فورد أمثلة كثيرة على حلول الروبوتات محل البشر في نشاطات اقتصادية شتى. منها إنتاج سيارات «تسلا» الكهربائية. ففي الماضي ومنذ أيام هنري فورد يتم جمع مكونات السيارة مهما صغرت أو كبرت من أمكنة صناعتها إلى حظيرة ضخمة تحتوي على جنزير متحرك توضع عليه المكونات ويتولى آلاف العمال تركيبها. أما الآن فمسؤولية تركيب مكونات كل سيارة من سيارات «تسلا» الكهربائية يتولاها 160 جهازاً آلياً (روبوت) بمرونة يصعب تخيلها. فنفس الروبوت الواحد مثلاً يغير يديه الإلكترونيتين حينما يحتاج الى تركيب أي مكون من مكونات السيارة. فمرة يركب المقاعد، ثم يغير أطراف قبضته ويركب الزجاج ويضع عليه المساحات ذاتياً من دون مساعدة أي إنسان. لكن أكبر تهديد للأيادي العاملة البشرية سيكون في قطاع الخدمات بما فيها تقديم الخدمات الصحية. فهناك شركة تم إنشاؤها قبل بضعة عشر شهراً (ربيع 2015) صممت وبرمجت روبوتات بإمكانها غسل مكونات الغذاء وتحضير الأطعمة من مكوناتها الطازجة وبأي كمية مطلوبة وطبخها ووضعها في ثلاجات حارة أو باردة يخرج منها آلياً ما يدفع قيمته من أراده. أما في مجال تقديم الخدمات الطبية، فحدْث ولا حرج من التشخيص إلى الجراحة من روتينية ومعقدة أحياناً. وأمثلة أخرى ليس من السهل تبسيط تفاصيلها. والسؤال الأهم كيف يمكن مساعدة من تحل هذه الأجهزة محلهم في العمل، وبالتالي مصدر الرزق، من دون التأثير في الدوافع لمزيد من الإنتاج في كل المجالات، ما يؤدي إلى زيادة النمو وارتفاع قيمة الناتج الكلي؟ ولعل جزءاً من الجواب أتى في كتاب الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي بعنوان «رأس المال في القرن الحادي والعشرين». فاقتصاد المعرفة من مصممي أجهزة الروبوتات وواضعي برمجتها في أحشائها وما رافقها من شركات مثل «غوغل» و «فايسبوك» وغيرهما الكثير خلقت ثروة هائلة لملاكها، بمن فيهم من اشتروا أسهمها وكبار مهندسيها. وفي الوقت ذاته سيؤدي تعميمها إلى تصنيع سلع وتقديم خدمات يتضاعف عددها بنسب متراكمة ما سيؤدي إلى رفع نسبة بطالة عدد متصاعد من العاملين بكل أنواعهم، بمن فيهم من حصلوا على التعليم الجامعي. ولذلك سيكون العائد على رأس المال المادي أكثر من العائد على رأس المال البشري (أي الأجور). وفي المقال الذي كتبته عن كتاب بيكيتي بعنوان «الكتاب المثير» (10/6/2014) ذكرت أن «بيكتي أراد أن يقول، إنه على المدى الطويل سيزداد الأغنياء غنى بسبب تسامي دخولهم من عائدات رؤوس الأموال التي تتراكم، فيؤدي تراكمها إلى رؤوس أموال خاصة أكبر، فتعود عليها دخول أكثر فأكثر، فتتضخم ثروات من مصدر دخولهم من العائدات على رؤوس الأموال ويتعذر على مَن مصدر دخولهم الأجور فقط اللحاق بهم. وتراكم الثروات يمكن أصحابها من التأثير في القرار السياسي في ما يخص مستوى الضرائب والرسوم التي تستقطعها الحكومات في الدول الغربية من عامة المواطنين لتمويل الانفاق الحكومي. فتتراكم رؤوس المال أكثر فأكثر فتتصاعد ثروات فئة قليلة جداً من المواطنين». ومن الواضح أن تنامي تعميم الروبوتات سيؤدي إلى تراكم ثروات من يصنعون ومن يبرمجون هذه الآلات ولن يشاركهم بنسبة كبيرة إلا أصحاب رؤوس الأموال الذين يمولون تصميم وبرمجة كل مستحدث في قطاع صناعة المعرفة. ومع أن بيكيتي تحدث عن رأس المال المادي عموماً وارتفاع العائد عليه نسبة إلى العائد على رأس المال البشري (أصحاب الأجور)، فإن ما تحدث عنه المهندس الاختصاصي في تصميم أجهزة الكومبيوتر وتنمية برامجها المتطورة لا يختلف في جوهره عما جاء به بيكيتي بالنسبة إلى سوء توزيع الدخل الكلي في البلدان المتقدمة.
مشاركة :