مثقفون بلا حدود / لغة أدب التعامل في مقتل سيدنا حمزة رضي الله عنه - ثقافة

  • 6/19/2016
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

«يحكي وحشي بن حرب وهو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف قتل حمزة عم الرسول، بعد أن ضاقت عليه الأرض إثر فتح الرسول صلى الله عليه وسلم لمكة، فها هو يقف ذليلا منكسرا فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينطق الشهادتين، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقعد وحدثني كيف قتلت حمزة؟» قال: «بلغنا أحدا، والتقى الجمعان، خرجت التمس حمزة بن عبد المطلب، وقد كنت أعرفه من قبل، ولم يكن حمزة يخفى على أحد، وما هو إلا قليل حتى رأيت حمزة يهدر بين الجموع كالجمل الأورق، وهو يهدّ الناس بسيفه هذا، فما يصمد أمامه أحد ولا يثبت له شيء؛ وفي ما كنت أتهيأ له، واستتر منه بشجرة أو حجر متربصا أن يدنو مني، إذ تقدمني إليه فارس من قريش يـُدعى سياع بن عبد العـُزي وهو يقول: بارزني يا حمزة، بارزني؛ فبرز له حمزة وهو يقول: هـلـمَّ إليّ يا بن المشركة هـَلـمَّ إليّ. ثم ما أسرع أن بادره بضربة من سيفه، فخر صريعا يتخبط بدمائه بين يديه، عند ذلك وقفتُ من حمزة موقفا أرضاه، وجعلت أهزّ حربتي حتى إذا اطمأننت إليها، ودفعت بها نحوه، فوقعت في أسفل بطنه، وخرجت من بين رجليه». فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك ! غيّـب وجهك عني فلا أراك». المستوى اللغوي لهذه الحادثة 1- «اقعد وحدثني كيف قتلت حمزة؟» كلمة (قعد) تجرنا إلى معرفة الفرق بينها وبين كلمة (جلس)، ولعل كلمة (اقعد) فيها من الألفة والمحبة والتقارب البدني والروحي؛ فالذي يقعد سوف يقعد بجانبك والحديث بينكما وأنتما قاعدان حديث مودة، قال سيبويه «وقالوا: هو مني مـقـْعـد القابلة أي في القرب؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام الذي قال فيه الله عز وجل «وإنك لعلى خلق عظيم» لا يكره وحشيا ولا يتقزز منه، وإلا لكان عامله رسميا أو برتوكوليا، وقال له (اجلس) كما يقول القاضي للمتهم، وكما يقول المعلم لتلميذه، وكما يقول أي مسؤول لموظفه، وكلمة اجلس تحدد المكان والمسافة، خلاف كلمة (اقعد) فليس فيها إلا القعود حيث قعد من يدعوك للقعود». 2- (وحدثني)، تخرج هذه الكلمة من فيه الطاهر عليه أفضل الصلاة والسلام وفيها خصوصية دافئة بين الرسول الكريم وبين قاتل عمّه حمزة، فلم يقل له (قل لي) أو (ارو لي) أو (احك لي)؛ فـ (قل لي) فيها طابع التحقيق والتجريم، و (ارو لي) فيها طابع التباهي والفخر، و (احك لي) فيها طابع المجاهرة بالقصة للجميع، ولكن عليه أفضل الصلاة والسلام قال له (حدثني) و لاحظ معي (قل لي، ارو لي، احك لي) هناك فارق أو فاصل بين اللفظتين وهي تبعد المسافة الروحية بين المتحدث والمستمع، ولكن عليه أفضل الصلاة قال له (حدثني)؛ فعل أمر من الفعل (حدّث) مبني على السكون، وكأن المسألة برمتها قد انتهت وسكنت وهدأت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل السكون هنا سكون الجاني نفسه، وسماعها من باب التقارب وهدم الجدار النفسي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتل عمه، والنون في الفعل هي نون الوقاية، وهي حرف مبني على الكسر لا محل له من الإعراب، وهذه النون تقي الفعل من الكسر، وكأنه عليه أفضل الصلاة والسلام يريد أن يقي وحشيا من العقاب وتأنيب الضمير ومن شر نفسه الجاهلية المحبة للقتل والسفك والدماء، والياء في الفعل هي ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به، واتصال الضمائر من صلة الوشائج الأخوية التي نادى بها الإسلام، وهذه المحادثة بهذا القعود بالقرب من النبي صلى الله عليه وسلم، رفعت الخوف وأزالت الرهبة وبددت الهلع، وهدّأت الروع، وأقرّت المسامحة وحققت العفو والصفح، وهي بداية صفحة جديدة من التعامل الخلاق، وإعطاء الأمن والأمان للمتحدث والمقاربة الشخصية؛ فحينما يقصّ وحشيٌ الحكاية على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمعنى ذلك أن الحديث أصبح وديا بين صاحبين، وهل هناك أبلغ من عبارة (حديث النفس). 3- «كيف قتلت حمزة؟» نعم إنه سؤال حـيـّر صاحبه؛ حمزة عم الرسول بخمسين رجلا كيف يقتله شخص مثل وحشي بن حرب وهو العبد الذي لا يسمح له بالقتال أو حتى تقدم المقاتلين في عرف الجاهلية؟ ولا يسمح له بحمل السلاح، كيف له أن يقتل حمزة المعروف بشجاعته وجسارته وبسالته وبأسه في الأعداء؟ لعل الأقرب إلى المتلقي أن تكون صيغة السؤال بأداة الاستفهام (لماذا أو لم) فكلنا يسأل حتى القاضي أو المحقق أو وكيل النيابة أو ضابط الشرطة أو الأب عندما يرتكب أحد أبنائه خطأ ما ؛ فالسؤال الأول هو (لماذا) يريد أن يعرف ما الدوافع النفسية وراء ارتكاب هذا الجرم أو هذا الخطأ، ثم بعد ذلك يسأل كيف قمت بهذا الخطأ. ولكن عليه أفضل الصلاة والسلام يعلم أن وحشيا عبد مملوك وقاتل مأجور - ولاسيما - وإن كانت الجائزة لتنفيذ الجرم هي حريته وهي بلا شك جائزة مجزية ومغرية، وعليه أفضل الصلاة والسلام لا يريد أن يفتح تحقيقا مع قاتل عمه ولا يريد أن يشخـّص الموضوع، إنما أراد عليه الصلاة والسلام أن يريح محدّثه، ويزيل عنه حملا ثقيلا، فالاعتراف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رأس الدولة الإسلامية، سوف يجعل من وحشي يعيش حياة طبيعية بين أصحاب الرسول رضوان الله عليهم، و أداة الاستفهام (كيف) هنا خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كابن أخ للمقتول لا يريد أن يعرف السبب الذي قد يثير ضغائن بين الأسرة والقبائل، فعليه أفضل الصلاة والسلام مع كل هذا المصاب الجلل فهو لا يريد أن يحرج قاتل عمه بمعرفة من وراء هذا القتل، وهي خاصة لوحشي كعفو عام صدر بحقه، فلا نسأل عن سبب القتل. إنما السؤال عن كيفية القتل وهي مرحلة أخيرة لإصدار الحكم. 4- إن أقصى ما استخدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعاطفة القرابة ورابطة الدم لعمه حمزة بن عبد المطلب، هو أن طلب من قاتله قائلا: «ويحك ! غيـّب وجهك عني فلا أراك» والغيب كل ما غاب عنك، والغيب أيضا ما غاب عن العيون وإن كان محصلا في القلوب، فلم يزدره أو يحتقره، بل جالسه واستمع إليه عليه أفضل الصلاة والسلام بأدب جم، وبتعامل راق، يدلنا على ذلك أن وحشيا كان يحضر مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، ويعدّ صحابيا؛ إلا أنه كان يواري وجهه دائما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثالا لرغبته عليه الصلاة والسلام، وتنفيذا لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتراما لمشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو بذلك يضرب لنا مثالا رائعا لطاعة الله ورسوله وولي الأمر. وفي هذا الطلب جاءت الخصوصية للرسول الكريم فقط غيب وجهك عني وليس عنا، كما أن عليه أفضل الصلاة والسلام لم يستخدم الكلمة الشائعة عند العرب في حال الغضب وهي (اغرب عني) فاغرب تشمل الجسد كاملا وبها من القسوة والغلظة، أما عليه الصلاة والسلام فقد كان دقيقا في اختياره للكلمة التي لا تجرح المشاعر، ورقيقا في تعامله حتى مع قاتل عمه؛ فلا تعد عقابا مستحقا، بمعنى أنه لم يقتله أو يأمر بقتله أو حتى يعذبه أو يأمر بتعذيبه، بل هي خصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فكره أن يراه لأنه قتل أعز الناس على قلبه، ما أعظمك يا رسول الله ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4). * كاتب وباحث لغوي كويتي fahd61rashed@hotmail.com

مشاركة :