إن التعامل مع الحقائق بأرقام وشواهد لا يغير صورها، لأن جوهر الحياة يعتمد على الوقائع وأزمنتها، وتاريخها واحتمالاتها، و لن يتحول التأثير فيها إلى تغيير، حتى وإن احتل التصور الذرائعي مكانة في أذهان الناس، وانحاز إلى جانب غير محايد، ليطرح تساؤلات عدة أهمها: لماذا هيمنت المراحل السابقة على حياة الإنسان العربي، وارتبطت به ارتباطا كليا، لا يكاد ينفك منه إلا ويعود إليه طائعا، مختاراً، ويرجع أي صياغة عصرية إلى الكتب القديمة، وتاريخ اكتظ بمفارقات عدة على عكس الحاضر الذي تسوده ضبابية غير مفهومة. غير أن هذه الوجهة أصبحت محسوسة وملموسة في الوقت الراهن، و في المجتمعات العربية والخليجية على وجه الخصوص، فهل هذه العودة إلى الماضي ُتفسر عقلانية مفقودة، كون العلم يفتقر إلى الروحانية، والمجتمع يرتبط بواقع يعكس خصوصية الزمان إلى ما سبق منه، ليناقض الدور الهائل الذي استغرق جهودا كبيرة وإمكانات مذهلة إلى تطويره. أم أن الفكر السابق لازال يسيطر على حياة الكثير، مما جعل الدلائل تضم تأويلا تراجيديا اثر على مفهوم الحاضر المتجدد، فمن الضروري مواجهة هذا الواقع المعقد، وإكسابه أهمية كبيرة تضاعف تفاؤل الناس وتستحث سعيهم نحو المستقبل، بينما يتميز الوجود الإنساني بأنه وجود يؤكد على مصدر الحقيقة والمعرفة، والتجربة العلمية، وأكد هذا القول ما تناوله علي حرب في مسيرة التقدم والحداثة قائلاً: (هذا هو العالم الراهن الذي نجابه حقائقه وننخرط في مشكلاته، وليست المسألة، إذن، مسألة مراحل تاريخية قطعتها الحداثة الغربية التي لا ينبغي حرقها والقفز فوقها، بقدر ما هي مسألة واقع قائم ولا مجال للقفز فوقه، وعلينا أن نحسن التعاطي مع التحولات الجارية). فالعلم بوجه عام يبني نظرياته من خلال الحوار بين العقل والتجربة، والفرد في المجتمع المحلي يسعى لتحسين مستواه حسب هذه النظرية ويبحث عن فرص لتطوير جميع الأشكال المعرفية لكي تقوم على أسس عقلانية واضحة، ولكن ثلة من الناس تعترض هذا الطريق، و قد عزلت كثيرًا من العقول عن المواكبة وأشغلتها في مسائل فرعية تجاوزها العالم منذ زمن طويل، مما عطل بلوغ الهدف الذي أعدته الدولة لازدهار هذا المواطن فكريا وعمليا. إن الموازنة بين أجزاء الحياة تستدعي الكشف عن المسارات المتعرجة والمعقدة، ففي القرن السابع عشر كانت حالة الإنسان ترتبط بالرغبة العارمة في العنف والشراسة والتنافس، تماما كالعصر الحديث الذي ساد فيه الحرب والعدوانية والتوتر والتطرف، وأشكال مدمرة لا تعلم فكرتها أو هدفها، ومحرضون كثر تتميز سماتهم بالمنطق والحديث المعاصر، وفي الحقيقة يتقن الفرد فيهم أشكالاً متعددة من التعسف الفكر ي الداعي للسيطرة على البسطاء. فالتاريخ البشري حافل بهذه العدوانية منذ العهد القديم، وقتل ابني آدم لبعضهما أكبر دليل، لقوله تبارك وتعالى: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ...الآية ). ولكنْ ثمة خط آخر يتعدى منطق هذه الممارسات التي قسمت المجتمع بين مؤيد ومعارض، وصرفته إلى أمور أقل أهمية من مشروعه الثقافي والتنموي، ليسجل تراجعا علميا وأيضا حضاريا، إننا بصدد مشروع لا يتعلق بحاضر متطور ومتجانس ومتنوع ومتحول كما يبدو، بل هو سعي يمحو كل جديد وكل ابتكار، وهذا جانب من عدة جوانب تستثمر الأصولية الثقافية والعقائدية مما يوقع في تناقضات خطيرة، لا تنفك تتكاثر مفرداتها وفاعليتها وتعكس فرقة في المجتمع الواحد.
مشاركة :