رأيتُ أن أصف بعض أنماط صراع الاستمرار ومُحاولات التكيّف لدى الناس في بيئات وظيفية واجتماعية غير ملائمة للحياة الإنسانية الكريمة، مُنطلقين من غريزة البقاء التي تـميّز جميع الكائنات الحية، وبخاصة في بيئة الغاب وقوانين يتغـوّل بسببها القوي ليأكل الضعيف، في ظل غياب منظومة اجتماعية مُعتبرة تحفظ الحقوق وتضمن أداء الواجبات، وتـميـّز الصالح من الطالح، وتقوّم المُعـوَج وتُقدّر النجيب. فعلى سبيل المثال: يعمد موظفون إلى رصد زملاء لهم يشبهونهم في صفات الأنانية وفرط حب الذات على حساب العمل، فيتنادون إلى قصعة الإدارة للتحكّم في موارد الوظائف ومقدّرات العمل، ويفلتون ولو مؤقتًا من المُساءلة والتقييم والمحاسبة، ويستغلُّون مناصبهم في التملّق لرؤسائهم والسكوت عن ظلمهم وكتم أنفاس مرؤوسيهم، وتهميش المتميّزين منهم حتى لا يظهر للناس الفارق بين الثرى والثريا، في ظل أنظمة إدارية تكرّس المركزية وتشتت الحقوق واستمراء الفساد الإداري، وتعدد المهام الإدارية والأكاديـمية لشخص واحد يتصف بصفات «طرزان الغاب»!!. أما آخرون، ففي محاولاتـهم للبقاء، يتشرنقون على أنفسهم، ويتكيّفون مع التيار الجارف فلا يستطيعون صدًا ولا ردًا، ويلجأون للنفاق الاجتماعي والالتحاف بالصمت الرهيب، والتفرّج على اللعبة، دون الـمشاركة فيها، فقد اختاروا العيش على «هامش الحياة». ومن المُديرين، من يلجأ إلى الاختباء من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وغلق بابه عليه، مُحيطا خندقه بترسانةٍ من الإداريين مُتجنبا اللقاء مع الموظفين والاستماع لشكواهم واقتراحاتهم، فهو بمثابة العاري لا تستـره أخلاقٌ حـميدة، ولا إمكانيات فكرية أو إداريةٌ معتبـرة، ليتفرّغ لتعزيز مكانته لدى «المدير العام» ووضع خطط بقائه على قيد الحياة الإدارية، واستمرار تدفق مكتسباته المادية الشخصية من خلالها. أما بعض الكفاءات الوطنية الـمُتميّزة، فبقاؤهم على قيد الحياة يعني لهم بقاؤهم على قيد الإنسانية، يتشبثـون بـمبادئ كريـمة فلا يُـعطون الدنيـّـة في أخلاقهم، يتكبّـدون من أجل انتقادهم الأوضاع المتدهورة وتكلّمهم بالحق خسائر مادية ويتحمّلون في سبيلها التهميش والتجاهل ممن هم أقل منهم قدرًا، رأوا في الإبداع تميّـزًا، ووسيلة بقاء أصيلة، وفهموا حقيقة المعنى المُعجِز لقوله تعالى: (فأمّا الـزّبـدُ فَيذهَبُ جُـفاءً وأمّا ما يَـنفعُ الـنّاس فَـيمكُثُ فـي الأرْض). abkrayem@gmail.com
مشاركة :