2016/10/27 من أهم سمات رجل الدولة التي تميز بها الملك عبد العزيز هي وضع الرجل المناسب، في المكان المناسب، في الوقت المناسب. وتتجلى هذه السمة في أول وزير للمالية عبدالله بن سليمان الحمدان (1884- 1965) الذي أسس مدرسة إدارية ما زالت قائمة، رغم مرور ستة وثمانين عاماً على توحيد المملكة، تجددت فيها الدولة عدة مرات، وزلزلتها الأزمات الخارجية والداخلية، وتغير الدخل الوطني ولم يكن النفط في بداية التأسيس ونقلنا النفط إلى العالم الحديث في طفرة أولى من 1975- 1983م، وفي طفرة ثانية من 1997- 2015م، وانخفض سعر النفط بينهما انخفاضاً مدمِّراً. ورغم تعاقب الوزراء واختلاف مؤهلاتهم الإدارية والاقتصادية، ظلت المالية التي أسسها ابن سليمان كالأب الحنون، يبيع سيارته، وذهب زوجته، ويرهن بيته، ويكسر ظهره بالديون والقروض، في سبيل أن يوفر لأبنائه أفضل مستويات الحياة الكريمة، بلا منٍّ ولا أذى، ودون أن تظهر على الوزارة أعراض انفصام الشخصية بين سياستها الداخلية، القائمة على الصرف في بنود واضحة لم يطرأ عليها تطوير أو تغيير يذكر، وبين سياستها الخارجية التي تحكمها الظروف الاقتصادية العالمية. وعلى هذا النهج سار معالي الوزير الحالي الدكتور إبراهيم بن عبد العزيز العساف، الذي وإن كان تكنوقراطاً مدنياً، إلا أنه نشأ في بيئة عسكرية، منذ أن عين معيداً في الكلية الحربية (1971) إلى أن أصبح أستاذاً ورئيساً لقسم الاقتصاد فيها (1982- 1986)، بعد أن ابتعث إلى أمريكا وحصل على أعلى الشهادات، في أحدث التخصصات هناك؛ فلم يتقلد الوزارة (1996) قادماً من الصندوق الدولي ومؤسسة النقد السعودي، إلا وقد تَخَلَّق بأخلاق العسكر؛ بكل إيجابياتها من الانضباط والشجاعة، وخفة الحركة، وبعض سلبياتها من الاعتداد بالرأي، والانفراد باتخاذ القرارات. وهناك صفة أخرى اشتهر بها أهل الجواء - مسقط رأسه (1949) - وهي الزهد في الكلام، والأنفة عن التذمر أو الشكوى، وقد تواتر عنهم أن مجموعة منهم، في إحدى رحلات العقيلات، فضلت الموت جوعاً على أن تمد يدها للآخرين. ومع ذلك لم يكن العساف يتردد في الحديث عند اللزوم، وكان هادئاً دقيقاً في تصريحاته للإعلام الخارجي المحترف، بما يكفي لإقناع المتابعين والمحللين بسياساته المالية، التي كانت السبب الأكبر في انضمام المملكة لنادي العشرين الاقتصادي. ولكنه لم يكن كذلك في برنامج الثامنة مع داود، في 19/ 10/ 2016؛ حيث بدا متناقضاً يستشهد بالإقبال العالمي على الاستثمار في المملكة لقوة اقتصادها، ويخوِّف مواطنيه من الإفلاس؛ ليبرر إلغاء البدلات والعلاوات، وإعادة هيكلة الرواتب، ورفع أسعار بعض الخدمات. وقد بعث بظهوره في تلك الحلقة المسجلة النقاش حول بعض السياسات غير المفهومة؛ كأن تقترض الدولة من البنوك المحلية بدل أن تفرض عليها ضرائب معقولة! كما أعاد التهم التاريخية للمالية بتعطيل المشاريع، واعتمادها إجراءات بيروقراطية تجاوزها الزمن. ولكن الخطأ الفادح هو أن الوزارة لم تصغِ - خلال عشرين عاماً - لآراء الخبراء والمحللين والكتاب الاقتصاديين، الذين حذروها مبكراً من الأزمات التي لا بد أن ندفع ثمنها اليوم؛ ليضطر الوزير الرزين أن يواجه النقد اللاذع حتى من غير أهله؛ إذ صُدم الجمهور بأنه لم يكن الرجل مخبوءاً تحت لسانه وحسب، بل ومستقبل أجيال لن تقنعها نوايا الأب الحنون.
مشاركة :