نحات لبناني يلون بالفضة شظايا الشك يعرض الفنان اللبناني بسام كيريللوس مجموعة من أعماله النحتية الجديدة في صالة "مارك هاشم" البيروتية تحت عنوان "فوضى"، وهو الفنان الذي أنجز سابقا العديد من النصب التذكارية لشخصيات تاريخية، أدبية، فكرية ودينية، وله أعمال مختلفة ضمن مقتنيات متحف "فرحات الفن من أجل الإنسانية".العرب ميموزا العراوي [نُشر في 2017/05/05، العدد: 10623، ص(17)]ثقوب الذاكرة المكلومة بيروت – لا يمكن إلقاء النظر على أعمال النحات اللبناني بسام كيريللوس بمعزل عن معرضه الأخير الذي قدمه منذ عدة سنوات في صالة “آرت سبيس”، لأنها امتداد واضح لما تعرضه اليوم صالة “مارك هاشم” البيروتية تحت عنوان “فوضى”، امتداد أخذ انعطافا خطيرا في معرضه الجديد ليس من ناحية الأسلوب الفني أو إدخال مواد جديدة كمادة "الريزين" والألوان المعدنية وغير المعدنية بقدر ما هو انعطاف في مضامين الأعمال والأفكار التي تنطق بها. عنون الفنان معرضه السابق بـ”العثور على الأمكنة” وتوّج أعماله تلك بكلمات أكدت للمشاهد أن ما سيراه أمامه ليس إلا بداية لحقبة بالغة الخطورة، كتب “نتفاعل مع الأمكنة التي تشبهنا، تجعلنا قادرين على فهم أعمقَ لذاتنا.. أنا موجود، إذن الأمكنة موجودة.. تعيد الحياة ابتكار ذاتها أفقيا وعموديا لتثبت أنها قادرة على الوجود، هذه التراكمات العمودية والأفقية تنطق عن الدمار الذي يجب استيعابه بغية عدم تكراره”. تبهت ألوان هذا “الرجاء”، إن صحّ التعبير في معرضه الجديد، فالفنان لم يعد معنيا برمزية طائر الفينيق والقيام من الدمار والرماد بقدر ما هو معني بدقّ طبول النهايات التي بشكل من الأشكال طغت على نشيد الأمل المخنوق في حنجرة الطائر/الأسطورة. إنه زمن الفوضى وقد حلّ ليس فقط في لبنان، البلد الذي التقى فيه الفنان وجها لوجه مع هامة الحرب الأهلية النكراء وكل ما رشح عنها من سخام وسموم مارست وما زالت تمارس مفاعيلها في لبنان اليوم. إنه زمن الفوضى في العالم كله، إنها نقطة الصفر يعلنها الفنان على الملأ، لا سبيل إلى إنكار ذلك حتى وإن بدا بسام كيريللوس للوهلة الأولى وفي العديد من أعماله محاولا نشر التفاؤل.كيريللوس ينحت مجسمات تذكر بمحطات من التاريخ الإنساني وصلها ببعضها البعض ليقيم نصا متماسكا يتكلم عن الانهيار قدم الفنان أعماله الجديدة بكلمات تمكنت من ترسيخ أصول الشك في نفس المُشاهد، وصولا به إلى خواتيم فوضى مُعلنة جاهزة للسكن البشريّ، ونذكر من هذه المنحوتات منحوتة تحمل عنوان “الكوكب الأزرق”، و”التفاحة الحمراء” ومجموعة رائعة عنوانها “تحت المحيط”. نجحت هذه الأعمال في جماليتها وبراعة التقنية وقوة التعبير، لكنها أخفقت في التعبير عمّا هو عكس الشك أو ضد الموت المحتوم. قد تبدو هياكل الأبنية المُدمرة وكأنها “محفوظة” في جبل شفاف من “الرزين” المُطعم بزرقة البحر اللازوردية ريثما يجيء موعد الحياة من جديد، ولكن هذا الانطباع ما يلبث أن يزول ليحل مكانه شعور بالاختناق الصامت والهادئ يذكر بهدوء السفن الصدئة والمدفونة في قاع المحيطات، وكأن كيريللوس يعاند في أعماله الجديدة هذه العدمية، ولكن ليقع في شركها بشعرية الإنسان الأول المذعور من هول العتمة المحيطة به عند أفول آخر شعاع شمس. ويقول بسام كيريللوس في تقديمه لمعرضه الجديد “هذه نظرية الفوضى، هي من النظريات العلمية الثورية الأكثر شيوعا في عالمنا المعاصر، الفوضى هنا ليست بمعنى غياب النظام بقدر ما تعني ذلك التخلي عن الاعتماد على منطق الحتمية والترابط لصالح الشك المُطلق، أعمالي هي ربيبة هذه الأفكار”. وهكذا يصبح معرض النحات اللبناني تتمة العثور ليس على الأمكنة، بل على اللامكان، هذا اللامكان/اللازمان غير القابل للتحديد ولا للتدفئة بشمس من يقين مُطمئن. إنه اللامكان المُجهز حديثا لكي يسكن إليه إنسان هذا العصر الذي نخره الشك، ربما، وربما فقط ترك الفنان فُسَحًا مضيئة بلون الفضة من الأمل، فسحًا ضيقة، وضيقة جدا قد تُستنبت فيها مستقبلا بضعة مما فقده الإنسان من خصائص إنسانية طالما ميزته عن الجماد قبل أن تميزه عن سائر الكائنات الحيّة، نذكر من تلك الأعمال المباني التي لطّخها الفنان بلون الفضة وبأبيض خفّف من حدة تكسراتها. وما يميز هذا المعرض هو أن كيريللوس استطاع أن يبني مشهدية عامة، وذلك عبر مجسمات تذكّر بمحطات وأمكنة من التاريخ الإنساني وصلها الفنان ببعضها البعض ليقيم نصا متماسكا يتكلم عن الانهيار، انهيار من ضمن المنظومة الواحدة. ومن تلك الأعمال نذكر مجسما يُذكّر ببرج بابل وإن كان، حسب قول الفنان، يمثل قاعدة تمثال حريصا الديني الشهير في لبنان، ونذكر أيضا بعض المباني التي تذكّر بتلك التي تزخر بها أفلام الخيال العلمي التي تتحدث عن نسخات تراجيدية لنهاية الحياة على الأرض. ولعل زائر المعرض باستطاعته أن ينطلق في استيعابه لنص بسام كيريللوس من منحوتة تمثل “مسلة” منقوشة بأحرف هيروغليفية مُتشتتة، لينتهي في “بداية” المعرض بمجموعة من المنحوتات/الشظايا المعلقة على جدار الصالة، لتشكل مسارا متعرجا يطلق عليها الفنان عنوانا مُتشعب الدلالات، وهو “طوم، عقلة الإصبع” في إحالة مباشرة إلى القصة الخرافية الشهيرة التي تتكلم عن ولد صغير حاول تلمس طريق عودته من الغابة المخيفة هو وإخوانه عبر رمي بضع حصى. ولئن كانت قصة طوم الصغير تنتهي نهاية سعيدة فإن قصة بسام كيريللوس لا تنقلب صفحتها الأخيرة إلا على الفوضى المُطلقة والتشكيك في المسلمات العلمية.
مشاركة :