كان شيوخ الأزهر فى مطلع القرن العشرين لهم هيبة دينية وسياسية مختلفة. ثابتين فى مواقفهم مع الحاكم والاحتلال، متواصلين مع الحركة الوطنية، متعمقين، فى نفس الوقت فى المسائل الشرعية والفقهية. ولم لا وهو فى زمن جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده. ولم يكن الشيخ سليم البشرى الذى تولى الأزهر مرتين آخرهما من 1909 وحتى 1916 استثناءً من ذلك. ففى عهده بدأت الإدارة الحديثة لمؤسسة الأزهر حيث تم إجراء امتحانات تمهيدية للراغبين فى العمل بالأزهر (جامعا وجامعة) وهو أيضًا الذى قاد كل السياسيين ورجال الدين فى حملة شعبية وسياسية عظيمة للتضامن مع «عزيز المصرى» الذى كان يخضع فى حينها- 1914- لمحاكمة ظالمة فى الأستانة. وتنقل الأهرام فى عددها الصادر فى 22 مارس 1914 رسالة من شيخ الأزهر جاء فيها: «إن لجنة تشكلت برئاسته للنظر فيما يجب عمله فى مسألة عزيز المصرى.. وليس من الناس إلا من عرف اسم ذلك البطل وأتاه نبأ سجنه بالأستانة منذ شهر ونصف بلا سبب، ولذلك رأينا أن نعقد لهذا الغرض اجتماعًا فى محل إدارة (اللواء) القديم أمام نظارة الحقانية بشارع الدواوين الساعة الثالثة بعد الظهر اليوم الاثنين. للتشاور فيما يجب اتخاذه من الطرق المؤدية إلى إنصاف هذا البطل». وفى نفس الأسبوع تنقل «الأهرام» رسالة أرسلها الشيخ «البشرى» إلى سعادة أنور باشا ناظر الحربية العثمانية يلفت فيه نظره إلى عزيز المصرى وقضيته لأن خدماته للدولة والمملكة تقضى بمراعاة جانبه وألا يعامل معاملة شديدة، فتلقى فضيلته أمس من أنور باشا تلغرافًا يقول فيه إن التهمة الموجهة إلى عزيز المصرى تتعلق بإدارته فى بنغازى ولا يمكننى أن أطلق سراحه قبل النطق بالحكم ببراءته ولربما بعد براءته يسمح له بالسكن فى نقطة معينة غير القطر المصرى، فاستدل من تلغراف ناظر الحربية أن الحكومة العثمانية معولة حتى بعد حكم البراءة على إبعاده ونفيه. وينقل د. محمد عبدالرحمن برج فى كتابه «عزيز المصرى والحركة العربية» تفاصيل الاجتماع الذى دعا إليه شيخ الأزهر، نقلاً عن جريدة المنار الصادرة فى 27 مارس 1914 «اجتمع ألوف من الناس فى 26 من هذا الشهر وكان قد دُعى إلى الخطابة فيما يتعلق بهذا الموضوع رفيق بك العظم ومحمد أفندى لطفى جمعة ومحمد أبوشادى بك وإبراهيم بك الهلباوى والثلاثة من المحامين، فخطب كل منهم فأجاد وأثنوا على عبدالعزيز بك المصرى وأطروا خدمته للدولة وأقاموا الدلائل والبيانات على استهجان القبض عليه. وفندوا ما شاع وما تصور من اتهامه به. وخطب صاحب هذه المجلة «رشيد رضا» خطبة ارتجالية وحده وأنقل هنا جزءًا منها: «إننى أظن كما تظنون أن الرجل برىء مما رماه به السعاة الواشون. ولكن أبنى كلمتى على غير الأساس الذى بنوا عليه، فأنا لا أفرض أنه برىء وأنه يخشى أن يؤثر فى أعضاء المحكمة التى تنظر فى قضيته وما يدور حولها من السحابات والأوهام فتصدق بعضها وتبنى عليه الحكم. يجوز أن يكون عبدالعزيز المصرى قد أتى بذنب لأننا نحن المسلمين لا نقول بعصمة أحد من البشر غير الأنبياء.. وإن كان لدينا دلائل متعددة تؤيد البراءة الأصلية.. أنتم تعلمون أن الأمم لا تغزو ولا ترتقى إلا بالرجال القادرين على الخدمة العامة للأمة القائمين بها، وهؤلاء الرجال قليلون لذلك يجب أن تقال عثرتهم. وعزيز المصرى من هؤلاء الرجال الذين قدموا الكثير للدولة والأمة فإذا صدق ذلك الواشى النمام الخبيث، وما كان إلا كذوبا فى زعمه، أنه قد أتى ذنبًا يحاكم عليه. أليس من حسناته وخدماته العامة صنيع يقتضى أن تغفر الدولة ذنبه وتقبل عثرته. وهل كان الذين يريدون الانتقام منه برآء من الذنوب». وانتهى الاجتماع الذى كان تحت رئاسة شيخ الأزهر وشهده طائفة من أكبر علمائه إلى إرسال برقية بإمضاء الإمام الأكبر إلى مولانا السلطان المعظم يخاطبه فيها بعنوان الخلافة وجاء فى مسودة الرسالة «لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة» ويطلب منه ألا يؤاخذ عبدالعزيز بك المصرى بما ينسبه إليه ديوان الحرب من ذنب أو تقصير. ولم تعمل لجنة الاجتماع بهذا الاقتراح لأنها كانت قد وضعت صورة برقية باسم الصدر الأعظم تتضمن نفس شفاعة الأمة المصرية بالرجل فجاءها جواب أنور باشا وزير الحربية، ما ملخصه أن المجلس الحربى مستقل تمامًا لا يطرأ عليه أقل تأثير. وفى 9 إبريل تنشر الأهرام الرسالة التالية من أتباع محفل ماسونى بالقاهرة، «ولم تكن الماسونية ممنوعة، بل إن صفوة الأمة وقادتها كانوا أعضاء فى هذه المحافل حينئذ وتردد أن عزيز بنفسه انضم إلى محفل ماسونى فى القاهرة وكذلك فى إسطنبول»، وجاء فى الرسالة: حضرة الفاضل رئيس تحرير جريدة الأهرام، بما لكم من الهمة فى خدمة الإنسانية جئنا اليوم نرجوكم نشر ما يأتى: اجتمعنا أمس بمنزل أحدنا بباب الخلق، ففاض ببعض أفاضل القوم وبعض رجال الماسونية ودارت المباحثة عما يصح تقريره حول مسألة عبدالعزيز بك المصرى فقصر الرأى على كتابة عرائض استرحام لجلالة المتبوع الأعظم، وإلى جانب وزارتى الحربية والداخلية العثمانية مع طائفة من التلغرافات باسترحام جلالة المتبوع الأعظم والخاقان. فى المقابل، فإن د. محمد عبدالرحمن برج ينقل فى كتابه عن جرائد صدرت فى ذلك الوقت- لم يسمها- أن الذى وشى بعزيز المصرى هو الشيخ عبدالعزيز جاويش الذى وظيفته التجسس على العرب. على حد قوله. ومسيرة الشيخ شاوى شاو جاويش حافلة بالعمل الوطنى منذ عمل إلى جوار مصطفى كامل فى «اللواء» واللافت أنه كان مقربًا من الشيخ رشيد رضا فى نفس الفترة، ولم يثبت هذا الاتهام فى أى مصدر آخر. وأخذت حركة الرأى العام فى القاهرة بعداً آخر، حيث طلبوا التدخل البريطانى فى هذه القضية، ويكتب عبدالكريم جرادات فى رسالته عن عزيز المصرى أن عدداً من أعيان القاهرة رفعوا برقية إلى السير إدوارد جراى فى مارس 1914 هذا نصها: «باسم الإنسانية نحن الموقعين أدناه نلتمس تدخلك الكريم فى قضية عزيز بك المصرى الذى ألقى فى السجن فى الأستانة والذى يجهل تمامًا سبب اعتقاله، نتضرع إليك بأن تعجل فى محاكمة عادلة أو إطلاق سراحه، وبهذه الاستغاثة نكون قد عبرنا عن عواطف وشعور الشعب المصرى بأكمله». ويذكر السفير البريطانى فى الأستانة السير لويس مالت أنه تلقى مطالب أخرى من مصادر عديدة ومختلفة للتدخل وكان أحد هذه المطالب من حاكم القاهرة «محافظ القاهرة» على ذو الفقار باشا زوج أخت عزيز المصرى، «حيث تقدمت بطلب رسمى لكل من وزير الداخلية والصدر الأعظم حول هذا الموضوع. وقد أوضح لى الصدر الأعظم أن اعتقال عزيز بك يعود إلى موقفه تجاه الحكومة منذ عودته إلى الأستانة، وقد علمت من مصادر أخرى الأمر سياسى بحت، فعزيز بك كان أحد القيادات العربية النشيطة فى جمعية الشباب العرب المدنيين والعسكريين المستشارين من الحكومة التركية. يكتب «جرادات» أن السفير البريطانى استمر فى غضون ذلك باتصالاته الهادئة وغير الرسمية مع طلعت «الصدر الأعظم» فى محاولة لإقناعه بأن الموضوع سيخلق انطباعًا سيئًا فى مصر، فإن كان مذنبًا فإنه من الأحسن نفيه إلى مصر مقابل التعهد بعدم عودته إلى الأستانة وبهذا ينتهى الأمر. توقف السفير عن اتصالاته عند نهاية مارس، عندما اكتشف حتى قبل نهاية المحاكمة أنه تم القرار بالحكم بالإعدام بحق المصرى فقام السفير البريطانى للمرة الثالثة بتحذير الصدر الأعظم من مغبة هذا الحكم على الرأى العام البريطانى والمصرى إذا تم تنفيذ الحكم فعليًا. عبر الصدر الأعظم عن ازدرائه الرأى العام المصرى ولتعهد الحكومة المصرية بأن عزيز بك سوف لن يتدخل فى الشؤون العربية. وقد اهتمت باقى البعثات الدبلوماسية وخاصة «الألمانية والفرنسية» بقضية «عزيز» كما تواترت البرقيات الصحفية فى الصحف الكبرى، لكن «التيمس» البريطانية كان لها اهتمام خاص بالقضية، ودأبت «الأهرام» على ترجمتها فى مكان بارز وخاصة افتتاحية الصحيفة الأشهر فى لندن فى مطلع إبريل والتى اعتبرت محاكمته باطلة- وامتدحت «المصرى» ووصفته بالشجاع، ون الرأى العام الدولى والعربى لن يسكت على هذه المحاكمة العسكرية. لكن أعظم صور التضامن فى القاهرة مع عزيز المصرى وأرفعها شأنًا جاءت من أمير الشعراء أحمد شوقى فى قصيدة رائعة جاءت كرسالة للسلطان محمد رشاد بالإفراج عن عزيز باعتباره من أبطال اليمن وبرقة فى ليبيا. شعرى إذا جبت البحار ثلاثة… وحواك ظل فى «فروق» ظليل وتداولتك عصابة عربية… بين المآذن والقلاع نزول وبلغت من باب الخلافة سدة… لستورها التمسيح والتقبيل تلك الخطوب وقد حملتم شطرها… ناء الفرات بشطرها والنيل قل للإمام محمد ولآله… صبر العظام على العظيم جميل أن تفقدوا الآساد أو أشبالها… فالغاب من أمثالها مأهول صبراً فأجر المسلمين وأجركم… عند الإله وإنه لجزيل يا من خلافته الرضية عصمة.. للحق أنت بأن يحق كفيل والله يعلم أن فى خلفائه… عدلاً يقيم الملك حين يميل والعدل يرفع للممالك حائطاً… لا الجيش يرفعه ولا الأسطول هذا مقام أنت فيه محمد… والرفق عند محمد مأمول بالله، بالإسلام بالجرح الذى… ما انفك فى جنب الهلال يسيل ألا حللت عن السجين وثاقه… إن الوثاق على الأسود ثقيل أيقول واش أو يردد شامت… صنديد (برقة) موثق مكبول هو من سيوفك أغمدوه لريبة… ما كان يغمد سيفك المسلول فاذكر أمير المؤمنين بلاءه… واستبقه إن السيوف قليل يقول عزيز المصرى فى حواره مع محمد عبدالحميد والذى ضمنه كتابه أبوالثائرين: إن السلطان تأثر كثيراً لإخلاص أحمد شوقى لتلميذه عزيز المصرى، وكان لها تأثير عظيم فى إصدار العفو عنى.
مشاركة :