قصة «الأب الروحي للضباط الأحرار»: حكم عليه بالإعدام بعد اتهامه بالسعي لضم اليمن إلى مصر (8)

  • 7/13/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

أعشق صحافة وأحزاب القاهرة فى بدايات القرن العشرين، فرغم أن البلاد كانت محتلة، إلا أن الأجواء التعددية كانت ملحوظة فى كل سطر تقرأه، أحزاب تنادى بالاستقلال عن بريطانيا والدولة العثمانية معًا، وأخرى تنادى ببعث الخلافة الإسلامية، على صفحات الأهرام. لاحظت اختلاط الرأى بالخبر فى تغطية رائعة وحرة لواقعة القبض على عزيز المصرى ومحاكمته فى إسطنبول فى مارس 1914، وإلى جوار مناشدات الشيخ سليم البشرى، شيخ الجامع الأزهر، للباب العالى بالإفراج عن «البطل العربى عزيز» إعلانات للعرض السينمائى «سبارتاكوس محرر الأسرى» فى سينما توغراف شيدوفر «بشارع بولاق»، وإلى جوارها خبر آخر عن انتشار حمى التيفود فى سجن النساء فى المنشية، وفى نفس العدد إعلان عن ملهى «كورسال دلبانى»، حيث ألعاب بهلوانية من أنحاء العالم ومغنيات فرنسيات رائعات. فى إسطنبول، وبعد 40 يومًا من اعتقاله ورغمًا عن الضجة التى أحدثها على أفراد الشبيبة العرب والمظاهرات التى خرجت، بدأت محاكمة عزيز المصرى فى 25 مارس 1914، كان رئيس المحكمة العسكرية برتبة جنرال وكان معه ضباط آخرون يجلسون معه على أنهم قضاة، وأنقل عن رسالة عبدالكريم جرادات، سير المحاكمة: تم توجيه عشرين تهمة مختلفة ضد «المصرى» فى غضون أربع جلسات، كانت التهمة الرئيسية أنه اختلس 30 ألف ليرة عثمانية تلقاها من «أنور» قبل مغادرته ليبيا، وعندما طلب منه التوضيح والرد، أجاب «المصرى» أنه لم يسبق له أن تلقى أى مبلغ وأن المال الذى بحوزته ضرورى لتغطية ديون والتزامات «أنور»، وأن ما تركه «أنور» لم يكن كافيًا لتغطية متطلبات الحرب فى ليبيا. وتم توجيه اتهام آخر لعزيز المصرى بإهانة الضباط العثمانيين وإجبارهم على العودة إلى الأستانة، وبإثارة عداء «السنوسى» وبإخلاء سبيل حسن بسكرى، الذى كان يعمل كجاسوس للإيطاليين بعد الحكم عليه بالموت بواسطة المحكمة العسكرية، وأن المصرى ادعى أنه لم تثبت عليه الخيانة أبداً، كما تضمنت لائحة الاتهام الموجه لعزيز المصرى أنه سلم برقة للإيطاليين مقابل رشوة كبيرة أخذها منهم، وأنه سعى إلى إقامة مملكة عربية فى شمال أفريقيا. والمتتبع لهذه السلسلة من التهم- كما يشرح «جرادات»- يلاحظ مدى السخف والانحطاط الذى وصل إليه «الاتحاديون»، فإذا كانت تلك التهم التى وجهتها المحكمة العسكرية لعزيز المصرى صحيحة فلماذا لم يقبض عليه حال عودته من بنغازى ووصوله الأستانة فى أغسطس 1913. فيما يخص التهمة الأولى فان أنور باشا- وزير الحربية حينئذ- لم يعترف أو يشر فى مذكراته إلى هذه الرواية، أما ما يتعلق بإهانة الضباط وإجبارهم على العودة إلى الأستانة، فهذا الكلام غير صحيح، فعزيز المصرى لم يجبر أحداً على مغادرة جبهات القتال ولم يكن من النفوذ الذى يسمح له بذلك، علمًا بأن غالبية الضباط العثمانيين كانوا قدموا إلى ليبيا كمتطوعين وليس بشكل رسمى، ولم يكونوا أقل رتبة من «عزيز»، أما إطلاق حسين بسكرى فقد ثبت لـ«المصرى» أنه لم يكن يعمل لحساب الإيطاليين، أما عن تسليم برقة للإيطاليين، فكانت قد سقطت فى يد الإيطاليين قبل قدوم «عزيز». أما التهمة الفاصلة والمتعلقة برغبته فى إقامة مملكة عربية فى شمال أفريقيا فإن هذه التهمة إن دلت على شىء فإنما تدل على وطنية صادقة وغيرة صادقة من قبل عزيز المصرى على ولايات الدولة التى كانت تحيطها الأخطار من كل جانب، كان معظم شهود المحكمة العسكرية من الضباط الصغار الذى كان الهدف من شهاداتهم تثبيت التهم على «المصرى» وجاء تلخيصها «أنه حاول نشر الفكرة العربية أثناء تواجده فى ليبيا وحاول تأسيس دولة عربية مستقلة»، وأنه عدو للأتراك بشكل عام وعدو لأنور باشا بشكل خاص وأنه خائن للإمبراطورية العثمانية. وطالت الاتهامات التى تداولها الشهود خدمة عزيز المصرى فى اليمن، فقال أحد الضباط إن «المصرى» توصل إلى اتفاق مع الإمام يحيى فى اليمن من أجل تطبيق برنامج مشترك يهدف إلى ضم اليمن إلى مصر وقام بالعمل لتطبيق هذه الفكرة وهو فى بنغازى، وذلك بأن يجمع بنغازى واليمن ومصر فى دولة واحدة، وأنه تلقى 15 ألف ليرة من الإيطاليين مقابل التنازل لهم عن ليبيا. كان عزيز يرد ويفند كل التهم التى تواترت على مدى ثلاث جلسات، كانت معظم الاتهامات تستند إلى دعاوى كيدية وبلا وثيقة واحدة، بل إن المحكمة استمعت إلى الخادم الذى كان يعد القهوة إلى «المصرى» أثناء تواجده فى ليبيا، فقال إن الخديو عباس حلمى الثانى بعث رجلاً يدعى حسن حمادة إلى عزيز بك ليفاوضه فيما يتعلق بتسليم ليبيا للإيطاليين، واستشهد على ذلك بمقابلة عزيز بك لسمو الخديو أثناء قدومه إلى ليبيا ومروره بمصر. ويكتب د، محمد عبدالرحمن برج فى كتابه «عزيز المصرى» أن المحكمة العسكرية استشهدت بضباط لسوء سلوكه، ولم تكن الشهادة كافية، فهناك عبد وهناك ضابط شركسى كان «المصرى» قد جلده لجبنه وسوء سلوكه فى برقة، وكانت الأسئلة لعزيز المصرى غريبة حقًا، هل أنت عدو أنور باشا؟ هل فضلت السنوسيين على السلطان؟ هل تآمرت لتجعل حاكمًا أجنبيًا على اليمن، وبينما كانت المحكمة العسكرية تجهز لحكم الإعدام رميًا بالرصاص، كانت الأجواء ملبدة بالثورة خارج القائمة، وسأشرح فى هذه الحلقة ردود الفعل فى إسطنبول والدول العربية، وسأترك ما حدث فى القاهرة للحلقة المقبلة. يكتب «عبدالكريم جرادات» فى رسالته «وردت البرقيات من الشريف حسين بن على أمير مكة المكرمة، معبراً فيها عن موقف إمارته الرافض، وكذلك فعل طالب النقيب فى البصرة، مشيراً إلى أنه سيقوم بانقلاب ضد الحكومة التركية فى البصرة وبمساعدة ابن سعود، ووردت رسالة من اليمن محتجة على معاملة (المصرى) الفاضحة، وقام عونى عبدالهادى بجمع عدد من الأصدقاء فى باريس والذين قاموا بإرسال رسائل احتجاج إلى الباب العالى وحتى إنهم حركوا الصحف المهمة فى المدينة للاحتجاج أيضًا. وقام عدد من الضباط الأتراك مثل مصطفى كمال أتاتورك، وفتحى بك، سكرتير الاتحاد والترقى، اللذين صادقهما عزيز المصرى أثناء جهادهما فى بنغازى بإرسال برقيتى احتجاج إلى أنور باشا بسبب اعتقال عزيز المصرى، مما كان له أطيب الأثر فى صفوف قادة الحركة العربية، مما جعل الناس فى الأستانة يتداولون هذا الخبر بالثناء والإعجاب بشجاعة هذين القائدين وحبهما للحق والحقيقة». يستكمل جرادات «قضية اعتقال عزيز المصرى خدمته شخصيًا حيث أكسبه ذلك تأييد الرأى العام العربى والأجنبى، كما خدمت سير الحركة العربية بشكل عام، تلك الحركة التى كانت بحاجة إلى حدث مهم ليوحدها، فيكفى الإشارة هنا إلى أن تلك القضية كانت حديث الساعة فى كل من سوريا وفلسطين والعراق وليبيا واليمن والحجاز ومصر، حيث توقفت العلاقة العملاقة بين زعماء هذه المناطق بسبب موقفهم الموحد فى هذه القضية». يكتب المناضل الفلسطينى أكرم زعيتر فى مجلة «العربى الكويتية» أنه على إثر القبض على عزيز المصرى قامت أضخم وأقوى مظاهرات عربية عرفها تاريخ العرب الحديث حتى ذلك الوقت، شباب العرب يثورون فى الأستانة ويتظاهرون، اجتماعات بقصد تهريبه من السجن، ضباط يهددون بالانتقام، مناشير عديدة بدأت تظهر لتندد بالحكومة، سفراء دول عظمى يتدخلون ومراسلو صحف عالمية يخوضون غمار هذه القضية، وبالرغم من كل ذلك، وبعد حملة الاتهامات التى وجهت لعزيز المصرى، صدر الحكم بعد الاستماع للشهود بالإعدام رميا بالرصاص. ولما ثار العرب فى كل مكان، قرر الاتحاديون اغتياله فى السجن مدعين أنه انتحر، وبدأ رجالات العرب فى كل مكان يستحثون بريطانيا على التدخل فى هذه القضية والعمل على إنقاذ «المصرى» من الظلم الذى لحق به، ومن هنا بدأت الوساطة البريطانية. وفى القاهرة تنشر «المنار» فى عددها الصادر فى 27 مارس 1914، تفاصيل أكبر اجتماع تضامنى عرفته القاهرة فى تاريخها الحديث مع «المصرى» برعاية شيخ الأزهر، بحضور رجال الدين والسياسة والأحزاب، وممثلين عن الجاليات العربية والأجنبية، الكل حضر الاجتماع، وألقى خطبًا حماسية، ولم توجه الاتهامات إلا لشخص واحد!،

مشاركة :