النزوات الطائفية تنتهك الرسائل الجامعية في العراق بقلم: همام طه

  • 8/7/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

النزوات الطائفية تنتهك الرسائل الجامعية في العراقتسلل المزاج الطائفي المهيمن على الواقع العراقي منذ عام 2003 إلى الحرم الجامعي العراقي، ما جعل الجامعة العراقية تصدر قرارا بتشكيل لجنة للتدقيق في الرسائل والأطروحات الجامعية قبل مناقشتها، لكن رغم مساعي القرار لمعالجة الصبغة الطائفية، إلا أنه يقيد الحرية الفكرية للباحث، ويسعى إلى حل مشكلة الانزلاق الطائفي لبعض الباحثين بتقويض الحريات الأكاديمية.العرب همام طه [نُشر في 2017/08/07، العدد: 10715، ص(7)]من أرقى الجامعات إلى مركز لترويج الطائفية في خطوة تؤشر على حالة التراجع التي يمر بها الفضاء الجامعي العراقي، أصدرت جامعة بغداد قرارا بتشكيل لجنة للتدقيق في الرسائل والأطروحات الجامعية قبل تقديمها للمناقشة معللة ذلك باحتواء بعضها على معلومات وصفتها بأنها “ذات صبغة طائفية أو مضللة لا تعكس الواقع الحقيقي لمجتمعنا”، وأكدت الجامعة على “ضرورة الحفاظ على اللحمة الوطنية دون المساس بأيّة جهة أو طائفة معينة”. يحاول هذا القرار معالجة مشكلة انسياق بعض الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية مع نزواتهم الطائفية والجهوية وميولهم الفئوية التي تدفعهم إلى انتهاك قيم البحث العلمي وروح النزاهة والتجرّد والحياد والالتزام المنهجي عبر الانحياز في أبحاثهم لهويات اجتماعية وإثنية أو اتجاهات سياسية معينة وتفضيلها والانتقاص من أخرى والحطّ من شأنها. ولكن فات صانع القرار أنه بذلك يغطي على ظاهرة تسرّب الوعي الطائفي إلى الوسط الجامعي ويتعامل مع أعراضها ولا يعالج جذورها وأسبابها، ويسعى إلى حل مشكلة الانزلاق الطائفي لبعض الباحثين بتقويض الحريات الأكاديمية وتأميم البحث العلمي وفرض رقابة سياسية على العمل البحثي، بمعنى أنه يعالج أزمة خطيرة بخلق أزمة لا تقل خطورة عنها، فتقييد حرية الباحث بأغلال سياسية وسلطوية ليس أقل سوءا من تورطه في تبنّي أفكار طائفية وعنصرية. تسييس الجامعات المتوقع من المؤسسة الجامعية أن تعالج الطائفية المفترَضة في أيّ بحث عبر المراجعة العلمية الشفافة والمنهجية والتقويم والمناقشة الأكاديمية، وليس من خلال أساليب ارتجالية تعتمد التدقيق السياسي والفحص الأمني والرقابة الأيديولوجية والتفتيش الفكري. ومع أن القرار يبدو في ظاهره ودوافعه تقدميا وإيجابيا؛ لكنه ليس علميا ولن يؤدي إلى ترصين أبحاث الدراسات العليا بما ينسجم مع أصول البحث العلمي واستحقاقات صيانة قيم الموضوعية والأمانة والحياد، ونبذ التسييس والأدلجة، وحماية المؤسسة الجامعية من الخضوع للمزاج الطائفي أو التورط في تزييف الوعي أو الانحياز لمواقف جهوية وفئوية على حساب أخلاقيات العمل المعرفي ومسؤولية وخصال الباحث؛ فالقرار في جوهره ومآلاته إنما يقود إلى ضرب الرصانة وانتهاك القيم العلمية وتسييس الجامعات وزجّها في السجال الطائفي والنزاع المكوناتي والحزبي، وتجذير عقدة الهوية في الحياة العامة، وإخضاع الأداء البحثي لمنطق شمولي قهري تمارسه السلطة الأكاديمية الـتي تتحرك هنا كـصدى للسلطـة السـياسية.القرار يبدو في ظاهره ودوافعه تقدميا وإيجابيا؛ لكنه ليس علميا ولن يؤدي إلى ترصين أبحاث الدراسات العليا كما يُسهم هذا القرار في إخضاع البحث العلمي لإكراهات منطق المحاصصة والارتياب الطائفي والحساسية الجهوية وقلق الهويات الفرعية عبر التماهي مع ظاهرة تقديس الانتماءات الأولية الدينية والعرقية التي تسود المجتمع العراقي ونعرات انتفاخ الذات الإثنية التي تتورط النخب السياسية والبيروقراطية والأكاديمية في تغذيتها عوضا عن ترشيدها وعقلنتها وتخفيف نزعات التعصب المكوناتي واستيعاب الخصوصيات الثقافية في إطار مفاهيم المواطنة والتنوع والاندماج والمساواة وليس بالتذويب والإدماج القسري. إن الاستقامة البحثية والنزاهة العلمية والتجرد المعرفي والتحرر من الغايات والمصالح والتحيّزات الاجتماعية والسياسية وصفات الروح العلمية والنقدية والعقلية الجادة الملتزمة لا يؤسَّس لها بقرار جامعي؛ ولكنها قيم معرفية وأكاديمية ترتبط بالبنى المؤسسية والفكرية للجامعة. وفي ظل العطب البنيوي الذي أصاب العملية التعليمية والاختلال المؤسسي الذي تعاني منه الجامعات وأجواء الشحن السياسي التي تعم البيئة الاجتماعية، يبدو متعذرا أن تتوفر الشروط اللازمة لعمل بحثي مستقل ومحايد يتمتع بالتجرد والمصداقية ضد التأثر بالاحتقان الطائفي في البلاد ونعراته وإكراهاته. ولعل التزييف الطائفي الذي طال الوعي العراقي في عهد دولة المكونات، هو الذي تسبب في تسلل النزعة الطائفية إلى الوسط الأكاديمي وظهور أبحاث جامعية مشوبة بتحيّزات طائفية أو سياسية أو إشارات عنصرية وتمييزية. صبغة طائفية عندما تكون هنالك صبغة طائفية في رسائل وأطروحات جامعية، فهذا يعني أن ثمّة خللا في العملية التعليمية والبحثية والمنظومة الأكاديمية من الأساس. وعلى الإدارة الجامعية مراجعة منهجيات التدريس والبحث ومجمل عناصر وأركان البيئة التعليمية، وتعزيز الاستقلالية المؤسسية والفكرية للجامعة عن الصراعات السياسية والفئوية بهدف تخليص الطلبة مبكرا من الاستسلام للنزعات الذاتية والميول والانحيازات الطائفية والأهواء الشخصية في العمل البحثي. وهذا ينبغي أن يحصل خلال العملية التعليمية والبحثية، فشبهة انحياز الباحث طائفيا تعكس خللا منهجيا ومؤسسيا وليست قضية بيروقراطية أو سياسية كي تُعالج بتشكيل لجنة للتدقيق في بحثه بعد إنجازه في إطار شكل من الوصاية الفكرية التي لا تتمتع بأيّ شرعية أكاديمية وليست لها أيّ جدوى علمية. والحل هو في إعادة بناء عقلية الباحث ووعيه المنهجي وصقل شخصيته العلمية، عبر تدريبه على التحرر من الهوى والإخلاص للمعرفة، وإكسابه خصال الروح العلمية مثل حب الحقيقة والشغف بالاستطلاع والاستقصاء والتعمّق البحثي، والالتزام بنبذ التعميم والتنميط وإطلاق الأحكام، ونكران الذات والتجرد من المنافع وعدم الخلط بين الذاتي والموضوعي أو بين النفسي والأكاديمي أو بين العاطفي والعقلاني أو بين العقائدي والوضعي في العمل البحثي، والإيمان بالمعرفة الطبيعية والتجريبية وبالحتمية العلمية، ونزعة الشك والنسبية، وعقلية التفكيك والتحليل، والروح النقدية القلقة المتسائلة والمتحررة من التأثر بالقناعات السائدة والصور النمطية وإملاءات البيئة الاجتماعية والثقافية، وصولا إلى تأهيله كباحث ملتزم قادر على ضبط انفعالاته وترويض مشاعره وآرائه وفق قيم التفكير العلمي وأخلاقيات المنهج البحثي الرصين. تقييد حرية الباحث في العراق بأغلال سياسية وسلطوية ليس أقل سوءا من تورطه في تبني أفكار طائفية وعنصرية ليس من اختصاص الجامعات القيام بدور سياسي أيديولوجي في “الحفاظ على اللحمة الوطنية” فهذا شعار شعبوي يصلح للدعاية الحزبية والخطب السياسية الديماغوجية ولإسكات المعارضين وكبح حرية التعبير. أما واجب الجامعة فهو القيام بدورها العلمي والمهني وفق قوانينها وأعرافها لضمان عملية بحثية رصينة ملتزمة بأصول البحث العلمي وقيم الجودة والانضباط المنهجي، بحيث تخضع الأبحاث لتقويم وتحكيم علميين على أسس أكاديمية وموضوعية بعيدا عن الشعارات الشمولية وتدخلات السلطة السياسية ومؤثرات البيئة الاجتماعية وصراعاتها وانفعالاتها وتناقضاتها. وليس متوقعا من العلم الحقيقي أن يتسبب في تهديد السلم الأهلي أو الإساءة إلى أيّ مجموعة سكانية أو تيار أو حزب. العلم الزائف هو الذي يقوّض الوحدة الوطنية ويسيء إلى الوعي العام والاستقرار السياسي والاندماج الاجتماعي. أما البحث العلمي الرصين والمسؤول والملتزم بالضوابط العلمية والأكاديمية فلا يضرّ الأمن الاجتماعي حتى لو أغضبت نتائجه وتوصياته الذين يزعمون تمثيل الطوائف والمكونات، بل هو يقود تلقائيا إلى حفظ التماسك الوطني وفتح آفاق الإصلاح والتقدم للمجتمع، لأن منهجيته نزيهة ومحايدة وتهدف إلى استكشاف جذور الأزمات واقتراح الحلول الموضوعية وليس إلى مجاملة الفئات الاجتماعية أو تجميل خياراتها السياسية. قمع فكري ولكن حين تقرر الجامعة قسر الباحثين على تغيير أفكارهم أو نتائج أبحاثهم قبل وصولها إلى لجان المناقشة العلنية المشكّلة من أساتذة متخصصين بحجة الحفاظ على السلام الاجتماعي؛ فهذا هو القمع الفكري والإكراه والتعسّف الذي سيؤدي إلى تدمير الحياة العلمية وتقويض الحريات البحثية والأكاديمية ما يصب في مصادرة الحرية الفكرية والثقافية للمجتمع وحقه في المعرفة وتزييف وعيه وتعريضه لاستلاب شمولي باسم الوحدة والأمن الوطني، وهو ما سيتسبب فعلا في الإضرار بالوحدة الوطنية، لأن حرية البحث العلمي فرع من حرية التعبير التي يشكّل تكبيلها انتهاكا لمنظومة الحريات المدنية والسياسية لأفراد المجتمع، وتكميم الأفواه تحت أي مبرر لن يكون مآله غير استمرار الاحتقانات والهواجس الطائفية وتهديد سلامة النسيج الاجتماعي. يُنجز الطلبة رسائلهم وأطروحاتهم تحت إشراف أستاذ أو أكثر، وتخضع للتقويم العلمي من أستاذ منتدب لهذه المهمة قبل إرسالها إلى أعضاء لجنة المناقشة لمراجعتها، فيناقشون الباحث في أفكاره وآرائه ومنهج بحثه واستنتاجاته ومقترحاته بصورة مستفيضة وعلنية. ثم تصدر اللجنة قرارها وتوصياتها بشأن البحث والدرجة التي يستحقها والتعديلات المقترحة؛ أفلا يكفي هذا المسار التقويمي والتحكيمي لترصين البحث وتنقيته من كل اتجاه طائفي أو عنصري مُضرّ باللحمة الوطنية؟ فلماذا تريد جامعة بغداد استحداث لجان ذات طابع سياسي سلطوي لفحص السلامة الفكرية للأبحاث بما يضمن ما تسميه “عدم المساس بأيّة جهة أو طائفة معينة”؟ هل يكتب الباحثون بيانات سياسية أم أبحاثا أكاديمية؟ وهل يعالَج التسيس بالتسييس؟ وهل يُصحَّح انزلاق بعض الباحثين إلى الأدلجة بفرض رقابة أيديولوجية على أبحاثهم؟ الخطاب الجامعي يكرّس هذا النهج الطائفية من حيث أنه يريد مكافحتها، ويسيّس البحث العلمي من حيث أنه يدّعي حماية رصانته واستقلاليته، إذ في تشكيل لجنة لضمان “عدم المسّ بالمكونات” في الأبحاث الجامعية مأسسة للنظرية المكوناتيّة التمييزية وتجذير لها في البنية الثقافية والقيمية للعمل الأكاديمي والبحثي، ما يعني ترسيخ هذا المنتوج السياسي في الحياة العلمية والجامعية والأكاديمية. ليست المشكلة في وجود بحث أو مقال يمسّ بأحد المكونات فهذا يحدث يوميا في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي؛ ولكن المشكلة الفعلية في وجود باحث استسهل الإساءة إلى هوية ما أو مكون أو اتجاه معين ولم يبذل جهدا علميا واستقصائيا ونقديا لتضمين بحثه أفكارا علمية حقيقية واستنتاجات ذات جدوى وقيمة، بعيدا عن الإساءة الطائفية واجترار الأفكار العنصرية والآراء النمطية السائدة في المجتمع والخطاب الشعبوي. تحدّث قرار جامعة بغداد عن ضرورة تنقية الأبحاث من “المساس بأيّة جهة أو طائفة”. اعتماد منطق الوصاية الفكرية في التعامل مع رسائل وأطروحات العلوم الإنسانية والاجتماعية هو ضربة للبحث العلمي ويبدو مستغربا أن يتورط خطاب جامعي رسمي في استخدام مصطلح “طائفة” في وصف مواطنين عراقيين مع ما تستبطن هذه المفردة من لغة تصنيفية وتمييزية تفرز أفراد المجتمع على أساس هوياتهم الذاتية (الدينية والمذهبية والعرقية) بعيدا عن أي أساس موضوعي أو قانوني، إذ يفترض بالخطاب المؤسسي الجامعي أن يترفع عن هذه المصطلحات التفتيتية ذات الحمولات السياسية والإحالات التقسيمية فتكون له الريادة على مستوى المجتمع في تكريس استعمال مصطلح “المواطنة” العلمي والدستوري في وصف العراقيين والعراقيات عوضا عن مفردات رثة مسيسة ومؤدلجة مثل طوائف ومكونات. إن تكرار مصطلح طائفة في الخطاب الرسمي وصولا إلى المخاطبات الجامعية سيؤدي إلى “توثين الطوائف” أي تحويل الانتماءات الدينية والعرقية إلى أوثان وأصنام فلا يستطيع أحد نقد أيّ حالة أو ظاهرة أو جهة سياسية أو اجتماعية خشية من أن يتهم بمعاداة أو استهداف طائفة معينة. وهذا التجذير لـ”سياسات الهوية” في الوعي والخطاب والعلاقات لن يحمي الطوائف بل سيقود إلى تأجيج مشاعر الكراهية وتدمير الثقة بين أفراد المجتمع وشحنه بالتوترات، وفي ذلك تقويض لبيئة الاستقرار السياسي والاجتماعي والثقافي التي يحتاجها البحث العلمي. كما أن في استعمال الخطاب الجامعي لتعبير “الواقع الحقيقي لمجتمعنا” نمط من اليقينية والجزم والأحادية واحتكار الحقيقة لا يليق بالجامعة؛ إنه خطاب أصولي فاشي يرى أنه ثمة أصل حقيقي للمجتمع أو للواقع يتّسم بـ”النقاء الوطني” وينبغي أن تخضع له جميع الأفكار والآراء وألّا يُسمَح بأيّ فكرة أو رؤية تنقضه أو تتناقض معه. إن اعتماد منطق الوصاية الفكرية في التعامل مع رسائل وأطروحات العلوم الإنسانية والاجتماعية هو ضربة للبحث العلمي في هذه الحقول المعرفية التي تلعب الحرية الفكرية دورا محوريا في تطورها، ففي ظل هذه العقلية التفتيشية كيف سيتمكن أي باحث من أن يكتب في تاريخ الأديان والعقائد، أو في تحليل الصراعات السياسية والاجتماعية، أو في نقد مواقف قادة ورموز تاريخيين أو معاصرين محسوبين على هذه الجهة أو تلك الطائفة؟ لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه، ولا سلطان على الباحث إلا أخلاقيات البحث العلمي وقرارات لجان المراجعة الأكاديمية والتقويم والتحكيم العلمي، والجلوس أمام لجنة المناقشة أشبه بالمثول أمام القضاء، فإذا كانت لجنة الوصاية الفكرية التي تريد الجامعة تشكيلها لفحص الأبحاث ستقوم بوظيفة هي من ضمن وظائف المقوم العلمي أو لجنة المناقشة فلماذا لا نعطي القوسَ باريها ونترك المسألة للمقوم العلمي ليقول رأيه أو للجنة المناقشة لتناقش الطالب في ما ورد في بحثه من “طائفية” أو “تضليل” مفترَضين؟ وإذا لم تكن وظيفة اللجنة المستحدثة هذه من وظائف المقوم العلمي أو لجنة المناقشة فإن وجودها غير مبرر بل هو تعدٍ على دوريهما وتسييس للعملية البحثية وتكريس للطائفية وليس كبحا لها. كاتب عراقي

مشاركة :