الفساد في العراق عطب في المنظومة السياسية الرسمية بالكامل بقلم: همام طه

  • 8/11/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

الفساد في العراق عطب في المنظومة السياسية الرسمية بالكاملعندما تصبح إساءة استخدام السلطة العامة أمرا طبيعيا ومتواطأ عليه بين النخب الحاكمة، فلا يعود الفساد مخالفة القواعد القانونية التي تنظم سير العمل الإداري والمالي في الدولة، بل تمسي هذه القواعد نفسها مفصّلة على مقاس عمليات الفساد؛ نكون عندها إزاء فساد متغلغل في البنى السياسية والمؤسسية للدولة، وهو ما يطلق عليه الفساد البنيوي، بمعنى أن الانحراف في صناعة القرار والسياسات والتشريعات يكون هو الأساس والحالة السائدة، ويكتسب شرعية الأمر الواقع بفعل تورط كثيرين في ممارسته من مختلف القوى السياسية.العرب همام طه [نُشر في 2017/08/11، العدد: 10719، ص(12)]العراقيون يبحثون عن مسؤول غير فاسد يشير مفهوم الفساد البنيوي إلى اضطراب وظائفي في الجسم الحكومي تغذيه بيئة سياسية واجتماعية مأزومة، ويعبّر عن اختلالات نفسية وذهنية وثقافية تصيب الوعي الجمعي لأجهزة الدولة وعقلها المؤسسي فتؤدي إلى تدهور شامل في الأداء، يعكسه نقص الرشد والعقلانية وغياب الإحساس بالمسؤولية وعدم الاستعداد لتحملها في اتخاذ القرار والتهرب مما يترتب عليه من تداعيات؛ إنه عطب المنظومة السياسية والإدارية الرسمية بالكامل، ما يفضي إلى عجزها عن إشباع الحاجات الخدمية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع. تغول الفساد نما الفساد البنيوي وتغوّل نتيجة تحوّل الانقسام الطائفي إلى تفكك إداري وأورام مؤسسية، بحيث قاد غياب الانسجام والتناغم عن العملية السياسية إلى غيباهما عن الحياة الإدارية والحكومية. كما أدت رخاوة الإرادة السياسية للإصلاح الإداري والمؤسسي إلى تفاقم بنيوية الفساد لأن الإصلاح عملية مستدامة وأي تلكؤ فيه يؤدي إلى استشراء نقيضه وهو الفساد. وعندما تغيب دولة المؤسسات وتهيمن دولة الطوائف والمكونات تتحول النزاهة من قيمة أخلاقية وقانونية إلى مفهوم سياسي وطائفي، فلا تعود تعني المحافظة على المال العام، بل حفظ المصالح المالية والسلطوية للطائفة. وفي الأوساط الحزبية يتم وصف المسؤول الحكومي الذي يبدي قدرا من النزاهة والشفافية في عمله بأنه أناني يهتم لسمعته الشخصية ويتجاهل مصالح حزبه ومن ورائها مصالح طائفته. وترى الباحثة السويدية كاميلا أورجويلا، في دراستها الموسومة بـ”الفساد وسياسات الهوية في المجتمعات المنقسمة” أن فهم إشكاليات وديناميكيات الفساد يحتاج إلى أن نفهم العلاقة والتداخل بين الفساد وتسييس الهوية الجماعية الإثنية والقومية والدينية في إطار السعي العنيف للسلطة، مشيرة إلى أربع مقاربات لتقاطع نزاعات الهوية مع الفساد؛ أولا، كيف تلعب الهوية الفئوية دورا في إعادة تعريف الفساد بحيث يتم تسويغه عبر ربط منفعة الجماعة بالمنافع الخاصة للفاسدين. وثانيا، كيف يؤدي الفساد إلى تفاقم المظالم على طول خطوط الصراع. وثالثا، كيف يحصل توظيف الفساد استراتيجيا في صراع الهويات. وأخيرا، كيف يمكن لتفاقم الفساد أن يشجّع التضامن العابر للطائفية بين الجماعات وتعبئتها لتحدي انقسامات الصراع. الفساد في العراق الفساد البنيوي في العراق هو فساد نظام سياسي يقوم على الانقسام الهوياتي، وتديره قوى أصولية عقائدية ترفع ألوية مظلوميات مذهبية وتؤجج تناحرات شرسة، أفقية وعمودية، فئوية وطبقية، فباسم العدالة بين المكونات تم توزيع ثروة البلاد على أحزاب طائفية تزعم تمثيل تلك المكونات ما أجهز على العدالة الاجتماعية وصنع بؤر التهميش والتطرف والعنف. ساعدت على ذلك حياة حزبية بدائية وأحزاب عائلية هي أشبه بالمافيات. كما تطورت العشائرية المهيمنة في المجتمع إلى زبائنية سياسية ومالية في مؤسسات الدولة، فالفساد البنيوي هو نتاج تلاقح معطيات اجتماعية واقتصادية وسياسية هي العصبية القبلية والريعية المالية والمحاصصة الطائفية والنزعات السلطوية.حارث حسن: قوة الفساد أعلى من القانون لا تستطيع أي مؤسسة مقاومتها وتتطلب مكافحة الفساد البنيوي نزع الشرعية السياسية والاجتماعية التي تستمدها مافيات الفساد من الانقسام الطائفي، وتركها من دون مظلة مكوناتية ليكون بالإمكان تفكيكها ومحاسبة أعضائها بكل السبل القانونية، وهذا يرتبط بقرارات سياسية جريئة تتعلق بتحقيق المصالحة الوطنية وتجفيف منابع الكراهية وتعزيز التماسك الاجتماعي؛ لإسقاط سرديات حماية مصالح المكون والذود عن الهوية المذهبية وتعزيز مكانة الطائفة التي تستند إليها شبكات الفساد في شرعنة نهب المال العام والاستيلاء على موارد الدولة لصالح أحزاب المكونات التي تتمتع بما يصفه الباحث العراقي حارث حسن بأنه قوة أعلى من القانون لا تستطيع أي مؤسسة مقاومتها في ظل نظام يخضع فيه القانون لمطاطية عالية في التفسير، وتُنتهك فيه بنوده من أجل ما هو أسمى. وما حصل طيلة السنوات الماضية هو انتقال الثقافة الحزبية الرثّة إلى مؤسسات الدولة، فتسربت الأزمات السلوكية والثقافية من الأحزاب الصاعدة للسلطة إلى الجهاز الحكومي، ما أدى إلى ضعف وهشاشة السياسات العامة واتسامها بالشخصنة والتفكك والفئوية والتمييز وضيق الأفق والسلبية ومعاداة المجتمع. والفساد الأيديولوجي سمة البنية الحزبية العراقية، فالأيديولوجيات المعلنة والمضمرة للأحزاب المتنفذة تتبنى الطائفية والعصبوية والإقصاء ولغة المظلوميات والارتداد للماضي، وهي خصال تعكس اختلالا فكريا بنيويا في وعي الطبقة الحاكمة ولا تمكن ترجمتها إلى تنمية وسياسات عادلة في الحكم؛ وإنما تتحول إلى ممارسات تكرس الاختلالات الهيكلية والقطاعية في الدولة وتنمي الفساد. وساعد على تجذّر الفساد في البنى الحكومية استخدام آلياته في الديناميكية السياسية نفسها، إذ تلعب علاقات الفساد دورا محوريا في تشكيل التحالفات وانفراطها، وبناء جبهات الموالاة والمعارضة، حيث يسود تبادل المنفعة والمساومة بين الكتل عبر تسهيل الفساد أو غلق ملفاته أو استخدامها كورقة ضغط، بحيث تحولت هيئة النزاهة نفسها إلى أداة في الصراع وميدان للتجاذب حتى انتهت بها الحال مجرد ديكور مؤسسي. ولا يمكن تصنيف ظاهرة بدء الدعاية الانتخابية المبكرة لشخصيات سياسية ودينية إلا في إطار الفساد البنيوي الذي تشبعت به ثقافة النخبة السياسية. والفساد العميق هنا لا يقاس بمقدار أو مصدر المال المدفوع لتمويل أنشطة التسويق السياسي والانتخابي لشخص ما باعتباره رمزا لهوية مذهبية أو جهوية؛ بل يتجلى في صفات الغطرسة وازدراء المجتمع والعدوانية والخداع التي يكشفها انشغال أشخاص يزعمون أنهم مناضلون من أجل الطوائف بالترويج لأنفسهم في وقت تعيش فيه البلاد أوضاعا كارثية يدفع الجميع ثمنها.التبرؤ من الفاسدين لا ينقذ العراقيين والفساد البنيوي ظاهرة سياسية – سايكولوجية يمكن تلمسها في ما يسود الحياة السياسية من سياسات وخطابات تدل على أنماط من السادية “التلذذ بإيذاء الآخرين”، والسايكوباثية “القسوة وكره المجتمع″، حيث يتم تمرير الفساد كسلوك ثأري أو تصحيحي أو إعادة لتوزيع الثروة؛ إذ بوسعنا أن نتخيّل كيف تضفى شرعية أخلاقية على الفساد عبر حوارات نفسية داخلية تستدعي المظلوميات الشخصية والأسرية والطائفية، وربما تستعين بنصوص فقهية وتراثية مع مغالطات انفعالية لتبرير الاستيلاء على المال العام كشكل من الانتصاف للذات وإحقاق العدالة، فقد وصف أحد المسؤولين الوضع السياسي القائم في عهد حزبه الحاكم بأنه يعكس العدل الإلهي ويتجسد في الفساد البنيوي تداخل الفساد الاقتصادي ممثلا في هيمنة الريعية والأحادية على الاقتصاد مع الفساد السياسي مجسدا في سطوة المحاصصة الطائفية. وعندما تتدهور أوضاع الموارد البشرية للدولة فتزداد عدديا بفعل التوظيف الزائد عن الحاجة وصولا إلى بطالة مقنعة وترهل مؤسسي، وتتراجع كفاءة الأداء نتيجة التساهل في معايير التوظيف، نكون إزاء فساد بيروقراطي؛ تعفن وتحلل الثقافة الإدارية، بحيث تصبح مؤسسات الدولة التي أصابها التقادم النوعي والانتفاخ الكمي وضربتها الفوضى والشللية والمحسوبية عبئا على المجتمع، إذ تبدأ تشتغل بالاتجاه المعاكس للتوصيف الخدمي الذي تم إنشاؤها على أساسه. وتتغذى بنية الفساد على اختلال ثقافي تنتجه مفاهيم اجتماعية معطوبة، حيث نجد في الثقافة العشائرية تمجيداً للنهب والغزو يعزز الفساد الحكومي ويكرس الاستحواذ والإقطاعية، ويوازيه فساد مديني يقوم على البيروقراطية الزبائنية ويتورط فيه أفراد من الطبقة الوسطى وسكان المدن، ويندرج في إطاره فساد ذوي الياقات البيض من الطبقات المهنية والمتعلمة، ودلالاته في ثقافة الاستئثار وحصر وتدوير المناصب في الشخصيات المرضي عنها حزبيا وطائفيا؛ إنه فساد ناعم يخفي وراءه قبح المحاصصة، وشراسة الاحتكار الفئوي والمكوناتي للفرص والمناصب، ورثاثة التمسّح بالهويات الجهوية والمناطقية والقبلية. الفساد غير المرئي ومن أمثلة الفساد البنيوي عقود الاستيراد والشراء التي تبدو في ظاهرها نزيهة ومهنية؛ لكنها في حيثياتها تعكس التقصير والفساد الإداري لأن صانع القرار يعطي أولوية للإنفاق الاستهلاكي والمظهري في وقت تتدهور فيه أو تضمحل القطاعات الخدمية والإنتاجية والتنموية الحيوية، فالفساد هنا جوهري غير مرئي نلمسه في اختلال الأولويات الذي يكشف عن هشاشة مؤسسية ولا مبالاة وعدم شعور بالمسؤولية ونقص في الالتزام القانوني والأخلاقي لصانع السياسات بمراعاة المصالح الحقيقية لجميع المواطنين ومنع تضررها، فلا تطغى أولوية على أخرى ولا يتسبب قرار ما في تعطيل أو تقويض قرار آخر. لكن صانع القرار يخلّ بواجبه تجاه تزاحم الأولويات الإنفاقية عندما يراعي في العقود والسياسات مصالح مفترضة لفئة أو شريحة من المواطنين ويهدر مصالح عامة فعلية؛ ما يؤشر بالمحصلة على تشكّل بيئة فاسدة داخل المؤسسة تسمح بمرور قرارات غير عقلانية من دون أي مقاومة أو مراجعة.تقاطع نزاعات الهوية مع الفسادالهوية الفئوية تعيد ربط الفساد بمنفعة الجماعة الفساد يؤدي إلى تفاقم المظالم أثناء الصراع يحصل توظيف الفساد استراتيجيا في صراع الهويات تفاقم الفساد يشجع التضامن العابر للطائفية بين الجماعات كما تتجلى الثقافة المؤسسية السامة، كوجه للفساد البنيوي، في غياب المساءلة الداخلية للقرارات، ومحاولة الموظفين الدائمة النأي بأنفسهم عن نقد السياسات أو إبداء الرأي، وعدم تمتعهم بالمهارات الاتصالية اللازمة لذلك، بفعل الشخصنة الطاغية والحرص على عدم إغضاب كبار المسؤولين. كما أن الصفقات والمناقصات غير العقلانية التي تبرمها الوزارات تتناقض مع ما تعيشه الدولة العراقية من حالة حرب وأزمة مالية خانقة، ما يعني أن صانع القرار يعيش بعقلية منفصلة عن الواقع وغير مؤهل للاضطلاع بأي دور إصلاحي. وتعد صفات كالهشاشة المهنية ونقص المعرفة والنظرة الدونية للذات مظاهر للفساد البنيوي، إذ لا يبدو مستغربا أن تتحدث تقارير عن تورط مسؤولين عراقيين في تلقي الرشوة من جهات وسيطة لتسهيل حصول شركات نفطية غربية على معاملة تفضيلية، فقبولهم بالتعامل مع وسطاء في صفقات وطنية يعكس ضعف خبراتهم في الصناعة النفطية ونقص احترامهم لذواتهم. كما أن الفساد البنيوي هو نتاج لحالة التزييف الشاملة التي يعيشها المجتمع على الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، فبعد فضيحة صفقة أجهزة كشف المتفجرات غير الصالحة استمرت السلطات الأمنية في استعمالها لإعطاء المواطنين شعورا كاذبا بالأمان ولم تبادر إلى حظرها، ما يعكس حالة من هبوط القدرات الذهنية والقيمية وضعف روح المبادرة والاستسلام للواقع وللذة الفشل وحالة التضليل المهيمنة على النظام والمجتمع. ويشي اختلال السلوك الوظيفي واللاعقلانية والهشاشة المهنية بعجز المؤسسات العراقية عن أن تكون جزءا من أي عملية إصلاحية في ظل حاجتها الماسة هي كمؤسسات إلى إصلاح جذري، ما يفرض أن تبدأ عملية الإصلاح، إن كان هنالك أصلا اتجاه للبدء بها، من إصلاح المؤسسات نفسها بموازاة العمل على تفعيل دورها في إصلاحات وطنية كبرى تحدث نقلة نوعية في حياة الناس. إنها عملية مركبة تحتاج إرادة سياسية ووعي ريادي غير ما يحكم البلاد من وعي تحاصصي متفسخ أو وعي بيروقراطي متهالك. كاتب عراقي

مشاركة :